الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العائدون من الموت

ممدوح رزق

2007 / 5 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كاتب ينشر مقالا في أحد المواقع على شبكة الإنترنت التي تسمح للقراء بكتابة تعليقاتهم ثم نشرها .. المقال يحمل رؤية نقدية أو متشككة أو استفهامية للدين .. التعليقات يحمل كثير منها تذكيرا عدائيا بالموت !!! .. ما معنى هذا ؟! .. ما معنى أنه حينما يحمل إنسان ما وعيا يرفض الوصاية العقيمة للثوابت والمسلمات والإجابات المتداولة والجاهزة المرتبطة بعقيدة معينة على أفكاره ومشاعره يكون الرد هو التنبيه الأقرب للتهديد بأنه ـ كاتب المقال ـ سيموت ذات يوم ؟! .. ما معنى أن يكون عدم اقتناع إنسان ما باليقينيات والأنساق والقرارات الخاضعة لنص ديني ولسلطة رجال دين يكون نتيجته هو التحذير من الموت كنوع من العقاب على اقتراف هذا الكاتب لإثم التفكير بهذا الشكل وجزاء له على ارتكابه لمعصية الأرق وذنب الانشغال بهموم محرمة ؟! .

ـ ( الموت هو " الفوقان الأكبر " ... أدعو الله من كل قلبي أن تفيق فوقة صغرى .. قبل الفوقة الكبرى ) .
ـ ( في القبر ستكتشف أنت وأمثالك الحقيقة ) .
ـ ( بعد الموت ستعرف أنك من الخاسرين .. لكن ساعتها لن ينفع الندم ) .
ـ ( أتمنى أن تسترد صوابك قبل أن يأتيك الموت فجأة ) .
ـ ( أخشى عليك من ساعة الحقيقة ) .

كأن كل من كتب مثل هذه العبارات هو ببساطة وباختصار شخص مات ثم عاد من الموت ليصدر أحكاما تصنيفية لا مجال للتشكيك في صحتها ـ بصفته جرّب الموت ـ عن من الفائز ومن الخاسر في نهاية الأمر .. كأنه ليس إنسانا مثله مثل كاتب المقال لا يزال يعيش في الدنيا ولم يستطع هو وبالعقيدة التي يؤمن بها وبمن يشاركونه الإيمان بهذه العقيدة لم يستطع تغيير الدنيا وإنقاذ العالم والقضاء على الشر ووضع نهاية لعذاب الإنسان .. كأنه ليس عاجزا عن حماية الآخرين أوحماية نفسه من الأذى أو أن يضمن مصيره هو شخصيا حينما تأتي ( ساعة الحقيقة المفاجئة ) !!! .

حتى لو تناولنا المسألة بطريقة أن عقيدة من يكتب مثل هذه التعليقات تمنحه الثقة والاطمئنان أو على الأقل الفهم لمواصفات أو سمات الفائز والخاسر فإنه مع ذلك لا يستطيع أن يجزم مهما بلغت لديه درجات الثقة والاطمئنان والفهم أن هذه المواصفات تمنحه القدرة المطلقة على التأكد من مصيره باعتباره ليس المتحكم الرئيسي والنهائي في تقرير الحسابات الختامية لها ، وأنها خاضعة حسب معتقده لعلم ولقرار إلهي قد لايكون متوافقا مع حسابات البشر القاصرة لهذه المواصفات .. بمعنى أنه مهما بلغت درجة التزامك وامتثالك لما قد يبدو لك إرشادات للفوز فإن ذلك ليس حكما مفروض على الإله تنفيذه وذلك حسب المعتقد أيضا الذي لا يجعل للإنسان سلطة على الإله مقابل أنه يحق للإله أن يفعل ما يشاء !! .. هذا فضلا عن كونها مواصفاته وسماته هو .. مواصفات وسمات الخير والشر الخاصة بدينه فحسب ، وأن الثقة أو الاطمئنان هو أمر مرتبط وخاضع لمعتقداته فقط .. أن للآخرين مواصفات وسمات أخرى مختلفة وبالتالي لديهم ثقة أخرى مختلفة واطمئنان آخر مختلف ، وبالمناسبة .. هؤلاء الآخرون قد يرتبطون بمعتقد آخر يؤمنون بالطبع أنه الفائز في النهاية !! .

هذه التعليقات قد تبدو نوع من استلاب الغيب لصالح عقيدة معينة وحرمان الآخرين منه .. احتكار ما لا يخضع لسلطة الحواس العادية ولا يقع في نطاق الشرط الإنساني وتحويله إلى أداة استهلاكية في خدمة ديانة محددة وضد الديانات الأخرى .. استثمار ما لا يمكن إدراكه ولا يمكن حسمه ولا يمكن امتلاكه ـ طالما أنه هكذا ـ كي تنسبه جماعة بشرية ما إلى نفسها باعتباره يخصها هي فحسب .
ولماذا لايحدث هذا ؟! .. طالما أن هناك آخر مختلف موجود ، ولديه تجربة أستطيع أن أحكم عليها بأنها ضد تجربتي وطالما أن العالم يسمح له بأن يكون حاضرا في الحياة وبهذه الطريقة التي تؤذيني ، وطالما أن خبرتي لم تنجح في جعله مثلي ومثل الآخرين الذين يشاركونني الانتماء لنفس الخبرة .. لماذا إذن لا أستغل ذلك المجهول المفزع غريزيا للإنسان والمستحيل استيعابه كي أجعله دليلا وبرهانا وتوكيدا على شرعية التحقق الكوني لمعتقداتي عن طريق صياغة معادلات تنظيرية وخلق علاقات تواصلية بين الأشياء ووضع قوانين وأنظمة وقواعد تستند إلى تأويلات معينة لخطاب ديني ما تجعلني الوحيد المرضي عنه والذي يفهم كل شيء وما يؤمن به هو فقط الصحيح !!! .

لعل التساؤل الذي أشعر بأهمية وجوده في هذه اللحظة هو : هذا السعي للانتصار ولو باستغلال الموت .. انتصار لمن ؟! .. بمعنى أنني حينما أستخدم الموت وأنا على دراية كاملة بكل ما يستدعيه من تصورات وأفكار وأحاسيس تتعلق بالغموض والخوف والقبر والحساب والفناء والنار ... إلخ .. قاصدا ممارسة الترهيب والترويع والترعيب وقذف الذعر في نفس المختلف معي بعد أن فشل المنطق الذي تربيت عليه وتربى بداخلي طوال سنوات عمري في جعل الناس كلهم مثلي .. ما الذي أريد أن أحافظ عليه وأحميه ؟! .. وضد من ؟! .. أنا .. الإله .. العقيدة أيا كانت ؟! .. هنا الإنسان يحارب من أجل من ؟! .. لو كان من أجل الإله فبالتأكيد يوقن كل المؤمنين به أن كماله يحميه من أي أذى مهما كانت طبيعته .. كذلك العقيدة .. فهي لكونها آتية من إله ( كامل ) فهي بالتأكيد محصنة ضد كافة شرور الإنسان خاصة لو كان هذا الإنسان يكتب مقالات فحسب .. أما لو كان من أجلك أنت شخصيا فهناك تساؤل آخر قد يكون أكثر أهمية : وما هو الألم الذي سببه لك الكاتب كي تضطر لاستخدام الموت في مواجهته ؟! .. هل لمجرد أنه ليس شريكا لك في معتقد ما ؟! .. هل لمجرد أنه مختلف عنك ويؤمن بأشياء أخرى مغايرة لتلك التي تؤمن أنت بها ؟! .. هل لمجرد أنه أراد بصفته إنسان مثلك أن يتحدث عما يفكر فيه ويشعر به تجاه العالم ؟! .. لكن الأمر ليس مجرد اختلاف بين البشر بقدر ما هو العداء العادي جدا بين البشر حينما يقررون أن الاختلاف الديني أو التشكك أو النقد أو الاستفهام هو اعتداء على الإله والعقيدة ، وأن الاعتداء على الإله والعقيدة هو اعتداء على الإنسان .. حينما يكون ـ وهو ما أراه بديهيا للغاية ـ الإنسان والإله والعقيدة شيئا واحد بحيث ينفي الإنسان أي تحقق لإنسانيته خارج الدين ، وأن الآخرين بالتأكيد ليسوا بشرا أو على الأقل يحملون إنسانية ناقصة طالما أنهم لاينتمون لنفس العقيدة التي أؤمن بها .. هذا الصراع الذي وفرت المشيئة الكونية كل ما يلزم لانتاجه ببراعة لابد أن يحدث لأن الإنسان لايقبل أن يتعامل أحد مع الإله والعقيدة بأقل من التقديس حتى في أشد لحظات هذا الإنسان ابتعادا عن الدين .. حيث الإله والعقيدة لديه هما تحقق لأمان من نوع ما بأن الأمر ليس عبثا وأن العالم له خالق موجود ورحيم وقادرعلى كل شيء ، ويتدخل لإنقاذنا من مصائب الحياة ويمنحنا السعادة ، وهو الذي سنرجع إليه وسيعفو عنا ويغفر لنا وسيدخلنا الجنة وأنه لاوجود لشيء اسمه العدم وأن هناك حكمة غيبية وراء هذا الكون وأن الفناء للجسد بينما الروح خالدة ... إلخ ، وعلى هذا فإن أي تعامل آخر مع الإله والعقيدة يمثل بالنسبة للإنسان عبثا قاسيا لايمكن تحمله .. عبثا بمقدرات حياته التي يجب أن تحرسها وتحميها وتحافظ عليها قدرة مطلقة طيبة لا يصدر عنها سوى خيرا .. يمثل عبثا بمصيره !! .
لابد للإنسان إذن أن يحارب إنسانا مثله حفاظا على سلامة الإله ( الكامل ) ، وبالتالي سلامة الإنسان نفسه .. التي لم تجرب الكمال أبدا !! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يغنون رفقة المتطرف الإسرائيلي يهودا غليك في البلدة


.. ناريندرا مودي... زعيم هندوسي في هند علمانية -اختاره الله للق




.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: فترة الصوم المقدس هي فترة الخزي


.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: السيد المسيح جه نور للعالم




.. عدد العائلات المسيحية في مدينة الرقة السورية كان يقدر بنحو 8