الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تجعلو من صوت فيروز سجنا

علي ديوب

2007 / 5 / 12
المجتمع المدني


الشكر واجب سلفا للجهة التي قررت فرض صوت فيروز على الباعة الجوالين في طرطوس، بديلا عن صخب الأصوات المتداخلة والزعيق والبعيق والجعير والنفير وما إليه من الثنائيات المكافئة للمقصود، الذي أين منه الأجواء المتخيلة لحروب داحس والغبراء (اختيار راجع لوقع التسمية)؛ أما الشكر المقدم فمربوط بالنوايا الحسنة التي أنتجت هذا التعميم القرقوشي العجيب! والنوايا الحسنة قد تفضي إلى الجحيم، كما يفيد القول الدارج.
أثارني، ولا يزال، تحليل دقيق قرأته عن أسباب وعوامل انفراط الاتحاد السوفياتي السابق، والذي منها ـ وقد يكون أهمها ـ الشعور الجمعي/ والفردي الرهيب بالأبدية المقرونة بالواحدية، الذي يفرضه النظام الشمولي عادة على المشمولين بنعمه المقيمة. والكاتب لا ينكر أو يقر بالنعم التي ربما كانت موفورة لدى شعوب الاتحاد السوفياتي، هو يرى أن هذا لا يغير شيئا من مشاعر الحصر وجنون الشعور بوطأة الأبدية!
وعليه أتصور حالي، قبل سواي، فيما لو أخضعت لقرار إطلاق صوت فيروز، تحت طائلة العقوبة للمخالف (وعملي بائع جوال، وربما بائع أشرطة كاسيت)، أو لسماع هذا الصوت الذي تفيض روعته عن الروح إلى ما بعدها، حين أكون عابرا بين عابرين للوطن أو فيه!!! في ظني سيكون وقع صوت فيروز أكثر أذى حتى من صوت السجان، في أدبيات السجن التي نقرأها. ذلك على الأقل للفارق الدلالي بين المكانين: ففي السجن الصغير، وطرداً مع شدة صغر المكان (في المنفردة بخاصة) تتحول رموز الحياة، و التي منها صوت السجان الرهيب، إلى حالة مؤنسة تستدعيها وحشة الوحدة. أما في السجن الكبير فتأخذ رموز الحياة اليومية دلالتها من وسطها المعيوش، وبالتالي تصبح أداة من أدوات القهر و الإذلال و الإخضاع. ولنا في العبارات والمصطلحات الإنسانية التي انعكست رعبا وتطيرا ونفورا فاستعداءً في ذاكرة البشر، في ظل الأنظمة الشمولية نفسها التي حاولت أن تتجمل بها، فتبنتها واستعملتها ودمجتها في صورتها البشعة حتى غدت واحدة من دلالاتها. وقرينة يستدعي حضور هذه صورة تلك، كما يستدعي صوت الجرس صورة الطعام، في تجربة بافلوف الشهيرة.
على أن عبقرية الحاكم التي تهفو للتحكم بالوجود وتصبو للخلود، في وقت واحد، فإنها تحاول ألا تغادر صغيرة ولا كبيرة؛ ومن هذا محاولتها جعل رواية جورج أورويل الشهيرة باسم (عين السلطة، أو 1948)، أمرا واقعا. أي المطابقة بين صورتها في مخيلة الرعية مع تصور هذه عن الله الحامي والحاني في آن، صورة تستند إلى تراثنا الخصب في ثقافة الاستبداد! وهذا يتحقق عبر أمثولة السجن الانفرادي العبقرية. فحين يقيض لها أن تجعل من السجن الكبير (الوطن) محض سجن انفرادي (زنزانة)، عبر تقطيع أواصر العلاقات بين أفراد المجتمع، فإنها تجعل من نفسها الطرف الثاني الحصري والوحيد. أي المؤنس الذي يختزل في شخصه قيمة الوجود، ومصدر هذه القيمة.
صحيح اني أكتب على هدهدة صوت فيروز، وبمعونته. وقد يكون هذا من دواعي الصفاء النفسي الذي هو بدوره من دواعي النتاج المتعلق بالفكر أو الحس.. ولكني لا أتصور نفسي مصغيا لصوت فيروز في أحوال لا تستدعيه إلا لكي تقتله، مما تحفل به جحيم شوارع مدننا وعاصمتنا(؟) بالأخص. ما يجعل من صوت فيروز، كواحد من اللطائف التي نحميها ونحتمي بها، شيئا أقرب إلى جوهر وجود ودلالة أكيدة من علامات الحياة في أمة، هي محض التباس بين جدث وجسد.
هذه اللطائف، هل نحسن صنعا إن نحن نزلنا بها إلى ميدان الحرب اليومية الدائرة؟ حيث الحشر ليس يوماً موعوداً بعد الموت بل هو موت يومي في شوارع محتلة من عصابات الأكشاك، الموكولين عسكرتاريا بتقديم براشيم الرحمة عبر كل مسامات التلقي للشعب المضطرب بين جنبات شوارع مقسمة بين العربات والموت، أشبه بسمك تجف من حوله المياه (الصورة الشعرية هنا لممدوح عدوان)؛ مقابل تنظيف جيوبهم من أدران الدنيا (المال)، احتسابا وتحسبا لأي انتقال فجائي محتمل إلى السماء، المآل النهائي، بل المفاز الوحيد الذي أبقت عليه الحكومات الحكيمة مفتوحا. عملا بالنصيحة الإنكليزية الباردة: لا تحاصر من أربع جهات.
أي عقلية هي تلك التي تتهيأ لها أخيلة من هذا القبيل على أنها دواء ناجع للواقع؟ وهل يعالج الواقع بالغناء! الغناء يزيد الجمال غنى، لكنه لن يجعل القبيح جميلا. لا يخلق الغناء العشاق، ولكن هؤلاء يخلقون الغناء. إن لم يصبح الواقع وسطا مستنبتا لصوت كصوت فيروز، بصورة طبيعية، فإن محاولة استنباته صناعيا (والأردأ بقرارات جبرية) ستحيله إلى جسد غريب. ولن يكون مصيره غير اللفظ، إثر استنفار مقاومة الجسد لمواجهته، بوصفه العدو المشترك.
لم يترك على أحلامنا من لحم الأسرار الحميمة سوى الجلد، وصوت فيروز هو الطبقة الحية من جلدنا، فلا تجلدوها بالقرارات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأونروا تنشر فيديو لمحاولة إحراق مكاتبها بالقدس.. وتعلن إغل


.. د. هيثم رئيس بعثة المجلس الدولي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة




.. الأمم المتحدة: نزوح نحو 80 ألف شخص من رفح الفلسطينية منذ بدء


.. إيطاليا: هل أصبح من غير الممكن إنقاذ المهاجرين في عرض المتوس




.. تونس: -محاسبة مشروعة- أم -قمع- للجمعيات المدافعة عن المهاجري