الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن رشد...ضياع الفرصة التاريخية

مهدي النجار

2007 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يؤرخ اغلب المهتمين بالثقافة العربية الإسلامية على أن المناقشة الكبرى حول الفلسفة التي جرت بين الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" وابن رشد في كتابه "تهافت التهافت" والتي انتهت بانتصار الغزالي وهزيمة ابن رشد،هذه الهزيمة هي أقوى انكسار للعقلانية الإسلامية،ومن توها (نهاية القرن الثاني عشر الميلادي) بدا تاريخ الجمود والتقهقر،تاريخ الدخول في عصور الانحطاط الطويلة التي لم تقم منها الثقافة العربية الإسلامية حتى الآن،لا يُفهم من هذا إن حركة الثقافة تجري حسب انتصارات أو هزائم أفراد حتى لو كانوا كباراً بحجم الغزالي وابن رشد،أو إن انتصار الغزالي يُعزى إلى قوة أفكاره وصحة حججه مقابل ضعف أفكار ابن رشد وركاكة براهينه، إنما حركة الثقافة وفي كل المجتمعات تتأثر بحركة الاجتماع التاريخية،وهذه الهزيمة الكبرى إنما حدثت كما يقول محمد اركون:لان حركة التاريخ كانت قد أخذت تمشي في اتجاه الغزالي ،ومن يستطيع أن يقاوم حركة التاريخ إذا ما انزلقت(أو مشت) في اتجاه ما ؟!
إن هذه المعركة الحاسمة في الفكر الإسلامي رغم نتائجها المأساوية والأليمة لصالح الاجترار والانقفال العقلي،كانت تشير إلى فترة هي من أخصب الفترات التي شهدتها الثقافة الإسلامية، من تعددية وتوترات ومناقشات،إضافة إلى تفاعلها الخلاق مع ثقافات الآخر (الثقافة الفلسفية الإغريقية)،أي استثمار منتجات الفكر الإغريقي بكل فتوحاته المعرفية والفلسفية،خاصة الارسطوية،من قبل العقل الإسلامي المرتكز على الخطاب التأسيسي الإلهي(أي القران)،ثم انتقال هذا التفاعل المبدع من ارض الإسلام إلى الأوربيين وتحوله إلى مرجعية مهمة لكل مثقفي أوربا طوال أربعة قرون،أي من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر،والسؤال الذي يؤرق الجميع ويحز في نفوسهم هو :لماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلانية في الوسط الإسلامي بعد القرن الثالث عشر،ثم اختفت كلياً وماتت في نهاية المطاف، ولماذا استقبلت بكل حفاوة،وفي الوقت ذاته،من قبل أوربا الغربية المسيحية؟!
أننا الآن أمام مأزقين سببهما حالة الضعف والتردي العام التي وصلها الاجتماع العربي الإسلامي المعاصر،وما آلت إليه المفسدة الاستبدادية (النظم السلالية والشمولية) نتيجة استنساخ نفسها بشكل لا يطاق،وما صنعته من ممارسات خانقة وبأكثر أشكالها المُذلة للروح البشري وعدم قدرتها على تهيئة الشروط اللازمة لتفتح العقل وازدهاره:
المأزق الأول: عدم قدرة العقل الإسلامي المعاصر على التفاعل مع تراثاته العقلانية بصورة خلاقة ومبدعة،خاصة تلك التي أسسها أمثال ابن رشد(وغيره من المفكرين السابقين لأوانهم).تخليص هذه العقلانيات التنويرية من الرسوبيات الهائلة وذلك عن طريق وضع التراث كلية تحت طائلة الفحص والمساءلة والنقد حيث ما زال عموم العقل الراهن ينتمي من الناحية العملية إلى فضاءات القرون الوسطى ويشتغل وفق آلياتها المعرفية العتيقة وأنشطتها التبجيلية التي اعتبرت آنذاك فكر ابن رشد متطرفاً،شذوذاً عن القاعدة وخروجاً عن المألوف،فتمت تصفيته وخنقه وأزاحته.
المأزق الثاني:إذا كان صحيحاً أن العقل الإسلامي لم يقدر على استيعاب تراثاته العقلانية والاستضاءة بها،وظل حبيساً في دوائر التكرار والاجترار،فهو أيضاً لم يعد قادراً على فهم واستيعاب أفكار الحداثة المعاصرة والتفاعل معها بإيجابية،هذه الأفكار التي أسست بشكل صريح وواضح منظومة نقدية جريئة لكل تراثاتها الفلسفية واللاهوتية ثم أحدثت قطيعة حاسمة مع كل تصورات القرون الوسطى.
منذ تلك الهزيمة ،هزيمة العقلانية،طُمست طروحات ابن رشد تحت ركام الالتباس وطبقات التاريخ السفلية ولم يقرا من قبل العقل الإسلامي إلا مع بداية القرن العشرين،كما يؤرخ لذلك محمود أمين العالم (مجلة الطريق ع6 بيروت2003 )حيث تعود اللحظة الأولى إلى عام 1903 (الإسكندرية) وبالتحديد عندما اصدر فرح انطون كتابه المبكر "ابن رشد وفلسفته" ويؤكد المفكر السوري طيب تيزيني في مقدمته لهذا الكتاب في طبعته 1988 :إن ما صنعه فرح انطون في "ابن رشد وفلسفته" لم يكن في خطه العام دعوة سلفية للعودة إلى هذا الفيلسوف العربي العظيم بقدر ما جسد محاولة أولية تتفحص أفكاره المعاصرة هو نفسه (أي فرح انطون) حول العلمانية السياسية والمجتمع المدني والعقلانية والتعايش بين الدين والعقل.
إن الجوهري في فكر ابن رشد هو العلاقة العضوية التي أسسها بين الشريعة(الدين) والحكمة(الفلسفة)حسب قوله المعروف المشهور : "أن الشريعة حق والحكمة حق" وتعتمد هذه العلاقة على آلية التأويل حسبما يقول ابن رشد: "إذا تعارض النظر العقلي مع ظاهر النص فليس هناك إلا التأويل الذي يقتصر على العلماء أصحاب النظر العقلاني البرهاني" وعلى هذا فالتطابق القبلي بين الشريعة والحكمة ليس هو الحاكم في فكر ابن رشد بدليل قوله بالتأويل الذي هو إخراج دلالة اللفظ من دلالية الحقيقة إلى دلالية المجاز.
يجمع اغلب قراء ابن رشد المحدثين على أن أهم إنجاز قام به ،إضافة إلى دعوته لفصل الشريعة عن الحكمة،هو إرساء العقل النظري والبرهاني في قلب الشريعة ووضع أفق كتاب ما بعد الطبيعة لارسطو في داخل الأفق الميتافيزيقي الإسلامي ، وهذا ما يكشف عن عمق مشترك بين الإسلام والحداثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منظومة الصحة في غزة الأكثر تضررا جراء إقفال المعابر ومعارك


.. حزب الله يدخل صواريخ جديدة في تصعيده مع إسرائيل




.. ما تداعيات استخدام الاحتلال الإسرائيلي الطائرات في قصف مخيم


.. عائلات جنود إسرائيليين: نحذر من وقوع أبنائنا بمصيدة موت في غ




.. أصوات من غزة| ظروف النزوح تزيد سوءا مع طول مدة الحرب وتكرر ا