الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح من الفكر السوداني المعاصر:(7-7)خاتمة تطوير شريعة الاحوال الشخصية

محمود محمد طه

2007 / 5 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تداخل الشريعتين وانفتاحهما على بعضهما:

يحسن أن نقـرر، وبصورة حاسمة، في هذا الموضع أن هناك شريعتين.. الشريعة السلفية، وهي شريعة الرسالة الأولى.. والشريعة الجديـدة، وهي شريعة الرسالة الثانية من الإسلام.. والاختلاف بين الشريعتين إنما هو اختلاف مقدار.. فشريعة الرسالة الأولى قاعدة، وشريعة الرسالة الثانية خطوة نحو قمة الهرم الذي قاعدته شريعة، وقمته أخلاق.. وهذه الصورة الهرمية تعطي انطباعا، واضحا، بأن شريعة الرسالة الأولى ليست منغلقة، وإنما هي منفتحة على شريعة الرسالة الثانية.. ثم إن هناك تداخلا بينهما يجعل بعض صور شريعة الرسالة الأولى لا تزال صالحة في عهد الرسالة الثانية.. مثال ذلك، شريعة العبادات، وشريعة الحدود، وشريعة القصاص.. وإنما يجيء استمرار صلاح هـذه، من أسباب أوردناها في موضعها من كتابنا: ((الرسالة الثانية من الإسلام)).. فليراجع.. أما بقية شريعة المعاملات، في السياسة، وفي المال، وفي الاجتماع، فإن كثيرا من صورها قد خدم غرضه - خدمه حتى استنفده - وأصبح تطويره أمراً واجبـاً.. ونكرر أن التطوير ليس قفـزاً عبر الفضاء.. لا!! ولا هو قول بالرأي الفـج.. وإنما هو انتقال من نص فرعي، إلى نص أصلي، في القرآن، وعلى هدى فهم أسرار الدين.. وفيما نحن بصدده من شريعة الأحوال الشخصية فإن هناك ركنين من أركان الزواج الأربعة لا تزال لهما الصلاحية التي بها يدخلان عهد الرسالة الثانية، وبنفس القدر، إن لم يكن بأوكـد، من الأهمية.. هذان الركنان هما الشاهدان، والمحل.. ويراد بالمحـل خلو الرجـل، وخلو المـرأة، من الموانع الشرعية من اقترانهما.. وأما الركنان الباقيان، المتممان لأربعة الأركان وهما الولي، والمهر فإنهما لا يؤذن لهما بدخول العهد الجديد، إلا بتطوير.. وهما من الأمثلة الجيدة لانفتاح شريعة الرسالة الأولى، على شريعة الرسالة الثانية من الإسلام.. ففي حالة الولي، فإنه يسقط سقوطاً تاماً، في شريعة الرسالة الثانية من الإسلام.. وإنما يجيء سقوطه ضمن سقوط الوصاية، حيث العهد عهد مسئولية ورشاد.. فالوصاية، على الرجال والنساء على حد سواء، للقانون الدستوري.. فمن يحسن منهما التصرف في حريته، تحت ظل هذا القانون، فلا سبيل عليه.. فإنه: ((ما على المحسنين من سبيل)).. وقد كان هذا الولي، في شريعة الرسالة الأولى، غير ضروري، عند السادة الحنفية، مثلا.. فإن عندهم أن المرأة يمكنها أن تكون ولية أمر نفسها في الـزواج، بل ويمكنها أن تكون ولية أمر غيرها فيه.. ولا يشترط في تصرفها إلا أن تـزوج نفسها، أو غيرها، للكفؤ، بمهر المثل.. فإنها إن فعلت، فلا سبيل لوليها إلى الطعن على تصرفها.. فإنه إن يفعل، يكن وليا عاضلا.. وهذا وصف يسقط حقه في الولاية عليها: ((وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهن، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن، إذا تراضوا بينهم بالمعروف.. ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، واليوم الآخر.. ذلكم أزكى لكـم، وأطهـر، والله يعـلم، وأنتم لا تعلمون))..
وقد قرر السادة الحنفية في الكفاءة أنها تكون في أمور ستة: الإسلام، والدين، والحرية، والنسب، والمال، والحرفة.. وستسقط كل هذه الأمور، في شريعة الرسالة الثانية، ولا يظل منها قائما غير الدين، والنسب.. والأمر الذي يهمنا من رأي السادة الحنفية هو أنـه، في الشريعة السلفية، هناك حوالة على القانون، ليكون قائماً مقام الولي.. وهذا ما قصدناه حين قلنا بانفتاح الشريعة السلفية - شريعة الرسالة الأولى- على الشريعة الجديدة - شريعة الرسالة الثانية من الإسلام.. ويجيء الحديث عن الركن الرابع، وهو المهر.. وهذا، في شريعة الرسالة الثانية من الإسلام، وبقيمته المادية المعروفة، يسقط سقوطاً تاماً.. ذلك بأنه إنما هو ممثل لثمن شراء المرأة، حينما كانت تشترى في الماضي، في عهد هوانها، فليس له، في عهد عـزها، مكان.. فليس للمرأة منذ اليوم ثمن وإنما هي شريكة زوجها في علاقة متكافئة.. هي، كلها، لزوجها، وزوجها، كله، لها.. حقوقهما متساوية.. وواجباتهما متساوية.. ((لهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة)).. وهذا المهر المادي، نفسه، في الشريعة السلفية، ليس بكبير الأهمية.. فهو ليس شرط صحة في الزواج.. ذلك بأن الزواج يصح بغير مهر، على الإطلاق.. ويصح بمهر متناه في القلة.. وقد زوج النبي ببعض آيات القرآن، وزوج بلا مهـر، على الإطلاق.. أما تزويجه ببعض آيات القرآن: ((فعن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله!! جئت لأهب لك نفسي.. فنظر إليها رسول الله، فصعد النظر إليها، وصوبه.. ثم طأطأ رأسه.. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله!! إن لم تكن لك بها حاجة، فزوجنيها.. فقال هل عندك من شئ؟؟ قال: لا والله يا رسول الله!! قال: اذهب إلى أهلك فانظر، هل تجد شيئا؟؟ فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله!! ما وجدت شيئا.. قال انـظر!! ولو خاتماً من حديـد.. فذهب، ثم رجـع، فقال: لا والله، ولا خاتماً من حديـد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه.. فقال رسول الله: ما تصنع بإزارك؟؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شئ، وإن لبسته لم يكن عليك منه شئ.. فجـلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام فـرآه رسول الله مولياً.. فأمر به، فدعي.. فلما جاء قال: ماذا معـك من القرآن؟؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وعددها، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟؟ قال: نعم!! قال: اذهب!! قد ملكتكها بما معك من القرآن.. وفي رواية زوجتكها بما معك من القرآن)) رواه الخمسة..
وأما تزويجه بغير مهر، على الإطلاق، فعن عقبة ابن عامر، أن النبي قال لرجل: ((أترضى أن أزوجك فلانة؟؟ قال: نعم!! وقال للمـرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟؟ قالت نعـم!! فزوج أحدهما صاحبه.. فدخل بها، ولم يفرض لها صداقا.. ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر.. فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئاً، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها، سهمي بخيبر.. فأخذت سهماً، وباعته بمائة ألف درهم)).. رواه أبو داؤد..
ها هنا سقط المهر، في الشريعة السلفية، وهذا هو ما عنيناه، أيضا، بانفتاحها على شريعة الرسالة الثانية من الإسلام.. حيث يترجم المهر المادي إلى مهر معنوي..
من كل هذا الاستقراء، يتضح لك قرب ما بين الشريعتين، حتى أن التطوير، من مستوى الشريعة السلفية، إلى مستوى الشريعة الجديـدة، لا يكاد يكون ذا بال.. ومع ذلك فهو في غاية الأهمية، لأنه يقرر مسائل كانت في منطقة الخلاف، كمسألة الولي، وكمسألة المهر، تقريراً نهائيا، يعطيها صورة واحدة، يجري عليها العمل، في مستأنف أمر الزواج..


الطــلاق:

لما كانت مرحلة الوصاية في الإسلام (وصاية النبي على الأمة بمقتضى آية الشورى.. ووصاية الرجال على النساء بمقتضى آية القوامة) مرحلة انتقال، سببها قصور الأمة عامة، وقصور النساء، بخاصة، عن شأو المسئولية.. والمراد منها أن تتهيأ فترة انتقال، خلالها يرشد الأوصياء القصر، حتى يبرزوا إلى مقام رشدهم، وعزهم.. حيث يكونون مسئولين عن حسن تصرفهم أمام القانون.. كانت حقوق القصر أمانة عند الأوصياء.. مثل النساء، في ذلك، مثل الأيتام.. قال تعالى: ((وابتلوا اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تأكلوها إسرافا، وبداراً أن يكبروا.. ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف.. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم.. وكفى بالله حسيبا..)).. والقرينة بين اليتامى وبين النساء هي السر في قرنهن بهم في قوله تعالى: ((وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء، مثنى، وثلاث، ورباع.. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم.. ذلك أدنى ألا تعولوا..)).. ولقد قال في موضع آخر: ((وآتوا اليتامى أموالهم)) وكنى بالمال عن جميع الحقوق، وأهمها حقهم على الأوصياء في النصح، والتربية، والترشيد.. وقال: ((وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)).. وكنى بالصدقات عن جميع الحقوق التي لهن، على الأوصياء، من النصح، والتربية، والترشيد.. والأوصياء هنا هم الأزواج.. ومن حسن الترشيد للزوجات إعدادهن ليبلغن مرتبة النضج التي بها يشاركن أزواجهن في حقـوق، وواجبات الزوجية، مشاركة الأكفاء.. ومن حقـوق، وواجبات، الزوجية، الدخول فيها بكامل الاختيار.. والخروج منها بكامل الاختيار أيضا.. وهذا هو الطلاق.. فالطلاق حـق، في أصل الدين، للنساء، كما هو للرجال.. ولكن حق النساء، في الشريعة، في المـرحلة، قد ائتمن عليه الرجـال.. ولقد ذهـل عن هذه الحقيقة علماء الإسلام، لما ذهلـوا عن أن الشريعة السلفية إنما هي مرحلية، وليست الكلمة الأخيرة، التي يريدها الدين..
ويجب أن يكون واضحا، فإن حـق النسـاء في الطـلاق لا يلتمس في نصوص آيات الطلاق.. ذلك بأن جميع هذه الآيات إنما هي آيات مدنية.. وهي من ثـم، فروع.. وفروع القرآن هي عمـدة شريعة الرسالة الأولى.. في حين أن عمـدة شريعة الرسالة الثانية إنما هي أصول القرآن.. وقد استفاض حديثنا عن ذلك..




تعدد الزوجـات:

لا مـراء!! فإن شريعة الأصول تمـنع التعـدد، في معنى ما تطالب بالعـدل.. والعدل يستحيل بين زوجتين.. دع عنك أربعا.. وإنما جاء تعدد الزوجات في شريعة الفروع، حيث كانت هي صاحبة الوقت، في القرن السابع.. ولم تكن حكمة التشريع، يومئذ، لتسمح بشريعة الأصول.. ذلك بأنها فوق طاقة المجتمع، وفوق حاجته، أيضاً.. ولا تستقيم حكمة بوضعها هذا الموضع.. ولقد اعتبرت شريعة الأصول مدخرة ليومها، ولقد جاء هذا اليوم بمجيء مجتمعنا هذا الكوكبي الذي يسعى لإقامة الحكومة العالمية التي تقوم على الدستور الإنساني، وتنظم علائقها بالقانون الدستوري.. ولقد كانت شريعة الفـروع، وهي شريعة الرسالة الأولى، متأثرة، في حكمة، برواسب الماضي، الذي كان عليه المجتمع الجاهلي، حيث كانت المـرأة، لا تملك حق الحيـاة، بله حق الحرية، والمساواة.. ألم تكن تـوءد حية؟؟: ((وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟؟)) وكان تعدد الزوجات في العهد الجاهلي وسيلة شائعة من وسائل استغلال النساء فكان الرجل يتزوج العشر، والعشرين امرأة، يستخدمهن، ويستولدهن.. فلم يكن ليستقيم، اقتصادياً، ولا اجتماعياً، ولا سياسيا.. لم يكن ليستقيم مع الحكمة، بأي وجه من الوجوه، أن يجيء التشريع يحد من التعدد، إلى الواحـدة.. ويحاول التسوية في الحقوق، والواجبات، بين الرجـال، والنساء.. فقد كانت الحكمة تستقيم مع التدريج، ومع إعداد فترة انتقال تتهيأ فيها المرأة لممارسة حقوقها، في المساواة، ويتهيأ فيها المجتمع، اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعيا، للإسماح بهذه الحقـوق.. وكذلك جاء تفضيل الرجال على النساء، في هذه الشريعة، فجعلت المرأة على النصف من الرجـل، في الشهادة، وفي الميراث، وعلى الربع منه في الزواج.. وكل هذه إنما هي أمور عرضية، زائلة، بزوال أسبابها.. ويومئذ ينتقل التشريع إلى المساواة.. وفيما نحن بصدده من تعدد الزوجات، يقول القرآن: ((وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى، وثلاث، ورباع.. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم.. ذلك أدنى ألا تعولوا))..
ولما كانت شريعة التعدد هي الشريعة الحكيمة لذلك الوقت لأسباب ذكرناها، في غير هذا الموضع، من هذا الكتاب، فقد جاءت السنة بتحديد العدل في قوله: ((فإن خفتم ألا تعدلوا)) فأصبح ((العـدل)) اصطلاحاً قاصراً على العدل في القسمة، ومتجاوزاً عن ميل القلوب.. وقد جاءت السنة، بهذا التقييد للعدل، من قوله تعالى: ((ولـن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم.. فلا تميلوا، كل الميل، فتذروها كالمعلقة.. وإن تصلحوا وتتقوا، فإن الله كان غفوراً رحيما)).. فكأنه تجاوز عن بعض الميل - ((فـلا تميلوا كل الميل))، وإنما تجاوز ليجعل شريعة التعدد ممكنة، وهي شريعة قد كانت ضرورية لذلك الوقت.. والتجاوز عن بعض الميل أخذ بأخف الضررين.. وهو يستقيم في المرحلة، ولا يستقيم عند التمام، وفي النهاية ومن ثم، فإن أصول الدين لا تقر التجاوز عن بعض الميل، وإنما هي تطالب بالعدل التام، وبالمساواة التامة.. وفي هذه الأصول، فإن قوله: ((فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)) يصبح قولا حاسماً في النهي عن التعدد.. ذلك لأن العدل في مستوى الأصول سينتقل من كونه عدلا في القسمة، كما كان في مستوى الفروع، ليصبح عدلا في ميل القلوب.. ولا مشاحة في أن القلب لن يعدل في ميله بين اثنين.. فلم يبق إلا واحـدة..


النـفـقة:

الإنفاق على الزوجة سبب من أهم الأسباب التي نهضت عليها قوامة الرجل على المرأة.. قال تعالى: ((الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم)) ولقد ظن بعض الناس، وحق ما ظنوا، أن المرأة لن تكون كريمة، في حياتها، إلا إذا كانت مستقلة اقتصاديا.. وخير فرص النساء، جميعهن، في الاستقلال الاقتصادي لا تتحقق إلا بالتنظيم الاجتماعي، الذي يعيد تقويم الانتاج، حتى تدخل المـرأة، الأم المنجبة، والمربية للأطفال، أعلى مراتب التـقدير بين جمهـرة المنتجين.. وذلك هو ما عجزت عنه الاشتراكية، المادية، القائمة اليوم.. وذلك أيضاً ما أسلفنا إليه الإشارة، في موضع آخر، من كتابنا هذا..
لقد سبق أن قررنا، ونكـرر هنا، أن النساء لا فرصة لهن في الكرامة، والمساواة، إلا في عهد الديمقراطية، والاشتراكية، في المستوى الإنساني، الذي اشتمل عليه القرآن، حيث الفـرد، من رجـل وامـرأة، هو الغاية من كل سعي الحياة.. ولقد سبق أن قررنا، ونكـرر هنا، أن هـذا المستوى من شمول الإدراك، قد عجزت عنه جميع الفلسفات الاجتماعيات، وفي طليعتها الماركسية.. وأنه لم يتوفـر عليه غير القرآن..
إن الانتقال، بالتطـور الواعي، الوئـيد، الرشـيد، من آية القوامة: ((الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله، بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم..))، إلى آية المسئولية: ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.. وللرجال عليهن درجة))، ولا يتم إلا بانتقال المجتمع انتقالا تاما، يتخلص فيه تشريعه من رواسب مجتمع الغابة.. ولقد سبق أن قررنا، ونكرر هنا، أن شريعتنا السلفية متأثرة، تأثراً حكيماً، ورشيداً، برواسب مجتمع الغابة.. ولقد يظهر ذلك في أمرين، من جملة أمور.. هذان الأمران هم الوصاية في السياسة، والرأسمالية في الاقتصاد.. ولقد أنى للمفكرين الإسلاميين أن يستيقنوا أن آية الشورى، إنما هي آية وصاية، وليست آية ديمقـراطية.. أكثر من هـذا!! هي ناسخة لآية الديمقراطية.. وأن آية الزكاة إنما هي آية رأسمالية، وليست آية اشتراكية.. أكثر من هـذا!! هي ناسخة لآية الاشتراكية..
إن أمل المستضعفين اليوم وهم النساء، والأطفال، وسواد الرجال، لا ينهض على هذه الفروع، وإنما هو ينهض على الأصول، التي عليها تقوم الديمقراطية، والاشتراكية.. إذ بالديمقراطية تقوم المساواة أمام القانون، وبالاشتراكية تقوم المساواة في الدخـول.. ولقد تحدثنا عن كل أولئك بما يكفي.. والذي نحب أن نقرره هنا هو أن قوامة الرجال على النساء لا تنتهي الا بانتهاء أسبابها وهي لا تنتهي أسبابها إلا بمجيء عهد الديمقراطية، والاشتراكية.. حيث تحال الوصاية على القانون الدستوري.. وتحال النفقة على الكفالة الجماعية.. وهي المعروفة اصطلاحاً ((بالمساواة الاقتصادية)).. يومئذ لا تكون المرأة محتاجة لحماية الرجـل، ولا لوصايته، ولا لنفقته.. لأن كل أولئك إنما يجيئها من النظام الجماعي.. وبذلك يصبح المجتمع وسيلتها الكبرى لتحقـق، بمنهاج الإسلام في العبـادة والمعاملة، فرديتـها، تلك الفـردية التي هي مطلوب الديـن.. أولا، وأخيراً.. ولقد أسلفنا إلى ذلك الإشارة..
خـاتمــة:

أما بعد فإن هذه هي الخاتمة.. وهي خاتمة قد أفضينا إليها بعد تطواف طويل، مررنا فيه على القمم الشواهق من أصول الديـن.. ونحـن، الآن، وهـنا، على موعد مع إحدى كبريات حقائق عصرنا الحاضر، وتلك هي أن هذه الحضارة المادية، العلمية، الآلية، العملاقة، تواجه الديـن - من حيث هو ديـن- بتحد لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية الطويل العريض.. إن هذه الحضارة ((التكنولوجية)) ليست رجسا من عمل الشيطان، وإنما هي من صنع العـزيز الحكيـم.. وحكمته وراءها لا تنفـد.. ولكن من أجلها، وأعظمها، هذا التحدي الذي أخذت تواجه به الدين.. فإن هذه الحضارة العلمية العملاقة قد استخدمت الآلة استخداما ألغى الزمان والمكان إلغاء يكاد يكـون تاماً.. وكان من جراء ذلك أن توحد هذا الكوكب، الذي نعيـش فيه، ((جغـرافيا)) توحيداً جعل سكانه جيرانا.. والجوار بالأقطار كالجوار بالأبيات، يقتضي طيب المعاملة، وحسن الخـلق، وسعة التسامح.. ولقـد كان المعصوم يوصي كثيراً بحسن معاملة الجار.. حتى لقد قال مرة: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).. وحسن الجـوار في مستوى الأقطار يتطلب حسن خلـق من النسق العالي الذي لـم يجيء الدين إلا لتحقيـقه.. وقد قال المعصوم مرة في إيجاز مهمته كرسول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فكأنه قد قال: ما جئت إلا لأتمم مكارم الأخلاق.. ومكارم الأخـلاق، جماعها، وقمتـها، حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. وأيسر ذلك وأدناه ألا يتعدى الفرد، في قول، ولا في عمـل، على حريات الآخرين.. ولا يتحقق هذا النسق السامي من حسن التصرف إلا بقوة الفكر المروض بأدب شريعة الدين، وأدب حقيقته.. وإنما من أجل ترويض الفكر على هذا النسق العالي من الصفاء، والسلامة، وسعة الإدراك، نزل القرآن، وشرعت الشريعة.. قال تعالى في ذلك: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون..)).. قوله: ((وأنزلنا إليك الذكر))، يعني القرآن جميعه، في مستوياته الثلاثة: الفـرقان، والقرآن، والذكـر.. قـوله: ((لتبين للناس ما نزل إليهم))، يعني ما تدنى، وتنـزل، إلى مستوى فهومهم من سماء أصول القـرآن، إلى أرض فروعه.. ولقد تحدثنا عن الأصول، والفروع، في هذا الكتاب، وفي كتابنا: ((الرسالة الثانية من الإسلام))، بما يغني عن الإعادة هنا.. والمقصود بالتبيين هنا، من قوله: ((لتبين للناس)) إنما هو التبيين بالشرح، وبالتفسير، والتبيين بالتشريع أيضا.. ثـم قـال ((ولعلهم يتفكرون)) فأبان أن الغرض من إنزال القـرآن، ومن تفصيل التشريع، إنما هو ترويض الفكر على الصفاء، الذي هو وسيلة القلب إلى السلامة.. ولا تتم ((مكـارم الأخـلاق)) إلا بالفكر الصافي، والقلب السليم.. الفكر الصافي من كدورة الأوهـام، والخرافات، والأباطيـل.. والقلب السليـم من المخـاوف، التي جعلتـه بيتـاً تعشعـش فيه سخائم الكراهيـة، والحقـد، والحسـد..
إن التحدي الكبير الذي تواجه به حضارة ((التكنولوجية)) العظيمة الدين يتلخـص، جميعه، في كلمة ((السلام)).. فإن الأرض بهذه الحضارة قد توحدت، كما أسلفنا القول.. وهذا الوطن الموحد يطلب إلى سكانه أن يتوحدوا، بصرف النظر عن مللهم، وعن ألسنتهم، وعن ألـوان بشرتهم.. ولا يتـم هذا التوحيد إلا بتنمية، وبتحرير، المواهب المشتركة بين جميع البشر.. وما المواهب المشتركة بينهم جميعاً إلا موهبة القلب، والعقل.. وإنما من أجل تنمية هاتين الموهبتين، ومن أجل تحريرهما جاءت جميع الأديان.. وللأديان، وبخاصة الإسلام، مرحلتان: مرحلة ((العقيـدة))، ومرحلة ((العـلم)).. فأما مرحلة ((العقيـدة)) فإنها تفرق الناس ولا تجمعهم.. والقاعدة فيها: ((كل حزب بما لديهم فرحون)).. لا يجمـع النـاس إلا مرحـلة ((العـلم)). فعلى (العقيـدة)، من ديننا، قامت أمة (المؤمنين).. وعلى (العـلم)، من ديـننا، تجيء أمة (المسلمين).. وهـذه هي الأمة التي ستنتـظم في صفوفـها سائر بشرية هـذا الكوكب.. وإلى ذلك أشار تبارك، وتعالى، حين قال: ((هـو الذي أرسل رسوله، بالهـدى، وديـن الحـق، ليظهره على الدين كله.. وكفى بالله شهيدا)).. ((الهـدى))، ((النور)) لهداية القلوب إلى السلامة من الخـوف.. ((ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله.. ومن يؤمن بالله يهد قلبه.. والله بكل شئ عليم)).. و ((الحـق))، ((الحكمة)) لهداية العقول.. (ولا تلبسوا الحق بالباطل، ولا تكتموا الحـق، وأنتم تعلمون).. وموهبتا القلب والعقل هما الموهبتان المشتركتان بين جميع البشر بصرف النظر عن مللهم، وألسنتهم، وألوان بشرتهم.. وإلى هاتين الموهبتين المشتركتين بين الناس، أشار، تبارك، وتعالى بقوله: ((فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله، التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الديـن القيم.. ولكن أكثـر الناس لا يعلمون))..((فطرة الله التي فطر الناس عليها)) هما هاتان الموهبتان.. وقد سمى الإسلام ((دين الفطرة)) لعظيم أثره في تحرير هذه الفطرة - القلب من المخاوف.. والعقل من الأباطيل.. وسبيله إلى ذلك إنما هو ((العـلم)).. وهذا هو السر في أن الفاصلة في الآية جاءت بقوله تعالى ((ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).. ومرحلة ((العـلم)) في الإسـلام تجـيء بعـد مرحـلة ((العقيـدة)).. فإنما هما مرحلتان: مرحلة ((العقيـدة)) على ثلاث درجات: الإسلام، والإيـمان، والإحسان.. ومـرحله (العلـم) علي ثلاث درجات: علـم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. وهـذه، وتلك، تكـونان، بينهما، ست درجات، تتـوج بالدرجـة السابعـة، وهي ((الإسلام)) الذي هو ديـن الفطـرة..
هذا الإسلام هو الذي يواجه، ممثلا لجميع الأديان، هذا التحدي الذي تواجه به هذه الحضارة الآلية، العلمية، المادية العملاقة، جميع هذه الأديان.. والإسلام في هذا المحتوى، وفي هذا المستوى - مستوى ((العـلم)) - إنما حوته أصول القرآن، لا فروعه.. وهذا هو الأمر الذي حملنا على القول بتطوير الشريعة من الفروع، إلى الأصول، ومن مستوى شريعة الرسالة الأولى، إلى مستوى شريعة الرسالة الثانية..
إن هذا الإنسان المعاصر، الذي ذهب إلى القمر، يجوس خلاله، ويستكشف مجاهيله، وأرسل مركباته بآلاتها إلى كوكب المريخ، ترسل صوره، واضحة جلية، هذا الإنسان المتطلع إلى المجهول، الكلف بالغيب، الموكل بالفضاء الخارجي، يجوب بآلاته آفاقه، انما هو، في خفية أمره، يبحث عن نفسه، وهو لا يشعر.. هو يبحث عن نفسه التي أضلها تحت ركام الخرافات، والمخاوف، والأوهام، والأباطيل، عبر قرون لا حصر لها، من تاريخه الطويل.. وسيظل يبحث عنها، وسيجدها، وسيتعرف اليها، وسيكون في سلام معها.. وبهذا، وبهذا وحده، سيحقـق السلام مع الأحياء الآخرين.. فإنه، ما دام هو منقسما على نفسه، وعلى جهل بها، وفي حرب معها، فإنه لن يعطي الآخرين سلاماً، بل حرباً، ذلك بأن فاقد الشئ لا يعطيه..
في عهد فرعون موسى، عندما كان الأمر الغالب على العصر هو السحر، فقد جاءت رسالة موسى بالحق بصورة بزت سحر السـحرة، وأبطلته، فظنوه سحراً، وما هو إياه، وإنما هو يشبهه، ويختلف عنه.. ولقد قص الله علينا من خبره، فقال، جل من قائل: ((ولقد أريناه آياتنا، كلها، فكذب، وأبى  قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى  فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه، نحن ولا أنت، مكاناً سوى  قال: موعدكم يوم الزينـة، وأن يحشر الناس ضحى  فتولى فرعون، فجمع كيده، ثم أتى  قال لهم موسى: ويلكم!! لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب.. وقد خاب من افترى  فتنازعـوا أمـرهم بينهم، وأسروا النجوى  قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى  فأجمعوا كيدكم، ثم أتوا صفاً.. وقد أفلح اليوم من استعلى  قالوا: يا موسى إما أن تلقي، وإما أن نكون أول من ألقى  قال: بل ألقوا.. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى  فأوجس في نفسه خيفة موسى  قلنا: لا تخف!! إنك أنت الأعلى  وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا.. إنما صنعوا كيد ساحر.. ولا يفلح الساحر حيـث أتى  فألقي السحرة سجداً.. قالوا: آمنا برب هارون وموسى  قال أآمنتم له قبل أن آذن لكم؟؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.. فلأقطعن أيديكم، وأرجلكم من خلاف.. ولأصلبنكم في جذوع النخل.. ولتعلمن أينا أشد عذاباً، وأبقى  قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاض.. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)).. فقد جاءهم الحق بصورة تشبه ما عندهم، ولكنه بز ما عندهم، وفاقه، فعرفوه واستيقنوه، وأذعن له من كان له بصر بالأمور..
وفي عهد عيسى، حين كان الغالب عليهم، والمعظم في صدورهم الطب، جاءهم الحق في صورة تشبه ما عندهم، ولكنها أعظم منه، فقال، جل من قائل: ((ورسولا إلى بني إسرائيل: أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله.. وأبرئ الأكمه، والأبرص، وأحيي الموتى، بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم.. إن في ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين)).. فجاءهم الحق بصورة تشبه ما عندهم، وما يعظم في صدورهم، ولكنه زاد عليه فعـرفوه، واستيقنـوه، وأذعـن له منهـم من سبقـت له من الله عناية..
ثم جاء عهد محمد، فكان الغالب عليه، والمعظم فيه، قوة البيان، وفصاحة اللسان، والعناية بإقناع العقول.. ولم تكن المعجزات في عهد موسى، وعيسى، تهمل إقناع العقول، ولكنها كانت تتجه، في المكان الأول، لتبهر العيون، وتسترهب العقول، بالخوارق.. ولكن معجزة محمد كانت تتجه، في المكان الأول، إلى مخاطبة العقول، لإقناعها بالبيان المعجز، في شمول في العبارة، وعمق في الإشارة، ودقة في المعنى.. هو يقول ((كذلك يبين الله لكم آياته.. لعلكم تعقلون)).. ويقول ((كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)).. وكذلك كانت معجزة القرآن، ((البيان)).. ثم هو دعوة إلى الفكر ليس لها نظير.. قال تعالى، في ذلك: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون)) فلكأنه تعالى قد جعل الغرض من إرساله رسوله، ومن إنزاله قرآنه ومن تفصيله تشريعه، إنما هو ((الفكر)).. ولكن هذا المستوى السامي من أغراض الدين لم يتحقق.. وهو لا يتحقق إلا في المرحلة العلمية منه التي تقوم على أصول القـرآن.. وذلك لأن الفكـر إنما هـو سمة مرحلة ((العلم)) من الإسـلام، لا مـرحلة ((العقيـدة)) منـه.. ولقد بينا أن الإسلام قد جاء في مرحلتين لأمتين.. مرحلة ((الإيمان)) لأمة المؤمنين.. وهذه تقع في ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. ولقد حواها حديث جبريـل المشهور.. ومرحلة ((الإيقان)) لأمة المسلمين، وهي أمة لم تجئ إلى اليوم، وإنما هي مقبلة.. وقد عناها النبي الكريم بحديث الإخوان المشهـور.. فإنه قد قال: واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: أولسنا إخوانك، يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي!! واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: أولسنا إخوانك، يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي!! واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعـد!! قالوا: ومن إخوانك، يا رسول الله؟! قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعين منكم!! قالوا: منا أم منهم؟؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا!! وهذا الحديث الشريف مأخوذ من القرآن الكريم.. من قوله تعالى: ((هـو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانـوا، من قبـل، لـفي ضلال مبيـن  وآخرين منهم، لما يلحقوا بهـم.. وهو العزيز الحكيم  ذلك فضل الله، يؤتيـه من يشـاء.. والله ذو الفضل العظيم)).. أشار إلى الإخوان الذين لما يأتوا بعـد، بقوله: ((وآخرين منهم، لما يلحقوا بهم)).. وجاء بقوله: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. والله ذو الفضـل العظيـم)).. في مقام الرد على التساؤل ((لماذا؟؟)) الذي ورد الرد عليه في الحديـث بقـوله: ((لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا ً))..
أمة المسلمين التي لما تأت بعد يكون دينها ذا سبع مراتب: ثلاث مراتب ((الإيمان)).. وثلاث مراتب ((الإيقان)).. ثم تتوج هذه ست المراتب بمرتبة الإسلام.. وهذا هو الإسلام الذي عناه الله، تبارك، وتعالى، حين قال: ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.. وهو في الآخرة من الخاسرين)).. ومراتب الإيقان، التي لم ترد في حديث جبريل، حواها القرآن.. وهي فوق مراتب الإيمان.. هي مراتب ((علـم)).. مراتب علم اليقين، وعلم عين اليقين، وعلم حق اليقين.. وهذه هي مستوى آيات الأصول، التي كثيرا ما تحدثنا عنها، في هذا الكتاب، وفي غيره من كتبنا.. ولقد قصدنا، بحديثنا المستفيض عن مرحلة ((العـلم)) من الإسلام إلى أن الإسلام ((عـلم نفس)).. فعلم النفس هو ما يحتاجه الإنسان المعاصر كما سبق أن بينا..
يقول الله تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين، الذين يعملون الصالحات: أن لهم أجراً كبيراً)).. ههنا الحديث الأساسي عن مرحلة المسلمين، وهؤلاء هم المهديون إلى التي هي أقوم.. والتي هي أقوم إنما هي ((النفس الكاملة)).. لأنها هي على جادة الإستقامة.. وعندما قال النبي الكريم شيبتني هود وأخواتها، إنما عنى من هود قوله: ((فاستقم، كما أمرت، ومن تاب معك، ولا تطغوا.. إنه بما تعملون بصير..)) والاستقامة هنا إنما هي لزوم ((العبودية)) التي هي حد العبد، والطغيان هو الزيادة عن هذا الحد، بدخـول رائحة إدعاء ((الربوبية))، التي هي آفـة العبودية السرمدية، والتي لا تنفك عنها على المدى.. ومنهاج هداية المسلمين إلى النفس الكاملة هو ((عـلم النفس)) ولقد تحدثنا، بشئ من التفصيل، عن هذا في مقدمة كتابنا ((أسئلة وأجوبة)).. الكتاب الأول..
ومن أوضح ما في هذا الباب، من القرآن، قوله، تبارك، وتعالى: ((وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له، يوم القيامة، كتابا يلقاه منشورا  اقرأ كتابك!! كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا  من اهتدى، فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل، فإنما يضل عليها.. ولا تزر وازرة وزر أخرى.. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)).. ونحب أن نلفت النظر إلى التوكيد على الفردية الوارد في هذه الآيات الثلاث..
وأما في الآية السابقة فإن المهديين إلى التي هي أقوم إنما هم ((المسلمون)).. وأما ((المؤمنون)) فإنهم مبشرون ((بالجنة)) قال: ((ويبشر المؤمنين، الذين يعملون الصالحات: أن لهم أجراً كبيراً)).. وشتان بين هؤلاء، وأولئك..
وبالرجوع إلى ما أسلفنا الإشارة إليه، من أن المعجزة التي تظهر مع الرسالات إنما هي بسبيل مما يكبر في صدور الناس الذين أنزلت إليهم تلك الرسالات، نجد أن القرآن قد جاء في عهد البلاغة التي كانت كبيرة في صدور العرب، وعظيمة الوقع على نفوسهم، جاء بالإعجاز في هذا الباب، من شمول العبارة، ولطف الإشارة، وفصل الخطاب، ودقـة المعنى.. هذا في استعماله لأواني التعبير العربي - اللغة العربية، ولطالما أشرنا إلى أن القرآن ليس اللغة العربية.. ونعني بذلك: أن اللغة العربية لا تحمل كل معانيه، إنما القرآن عـلم، هو علم النفس البشرية التي اغتربت عن موطنها.. وهي الآن في سبيل الرجعى إليه.. والقرآن هو خط سيرها، في الصـدور، والورود.. وهو إنما صب في قوالب التعبير العربي ليكون منهاجاً لها، به تتحقـق لها الرجعى.. قال تعالى، عن حقيقة القرآن، وعن مظهره: ((حم  والكتاب المبين  إنا جعلناه قرآنا عربيا، لعلكم تعقلون  وإنـه، في أم الكتاب، لدينا، لعلي حكيم)).. فالقـرآن حقيقته.. في أم الكتاب.. وأم الكتاب، هنا، هي الذات الإلهية.. فإنه، عندما قال ((لدينا))، قد خرج بالصورة عن الزمان والمكان، فلحقت بالذات.. فهذه هي حقيقة القرآن.. ثم إنه تنزل المنازل، حتى لقد طوعت أواني التعبير العربي لتحمل أكبر قدر من هذا الإطلاق.. والحكمة في ذلك هي أن نفهم نحن: ((إنا جعلناه قرآنا عربياً، لعلكم تعقلون)).. وتطويع أواني التعبير العربي لتحمل هذا الفيض الزاخر من العلم، هو إعجاز التعبير، الذي ووجه به العرب، فلم يستطيعوا أن ينهضوا لتحديه، فأذعنوا له، واستيقنته نفوسهم، وآمن له منهم من سبقت له من الله العناية..
ولكن التعبير باللغة العربية إنما هو ظاهر القرآن.. وللقرآن ظاهر، وباطن، وله حد، ومطلع.. ولقد تحدثنا عن كل أولئك في كتابنا: ((أسئلة وأجوبة)).. ويكفي أن نقول هنا: أن ظاهره هو بمثابة آيات الآفاق.. وأن باطنه هو آيات النفوس.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ((سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟)) وكل باطن من القرآن داخله باطن.. ولا تتناهى الصور، على الإطلاق.. لأن نهايتها في الإطلاق - في الذات الإلهية - وحين كانت معجزة الرسالة الأولى من الإسلام هي بلاغة القرآن، فإن معجزة الرسالة الثانية من الإسلام هي ((علمية)) القرآن.. فإن هذا العصر الحاضر هو عصر العلم.. العلم المادي التجريبي.. هذا هو أعظم شئ في صدور الناس الآن، وسيجيء الحـق، في الرسالة الثانية من الإسلام بصورة تشبه هذا العلم، ولكنها تبزه، وتتفوق عليه.. وسيذعنون لها، وستستيقنها نفوسهم، وسينقادون لها.. لا يشذ عنها شاذ، ولا يعصي أمرها عاص.. يقول تعالى في ذلك: ((طسم  تلك آيات الكتاب المبين  لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين  إن نشأ ننزل عليهم، من السماء، آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)).. وهذه الآية إنما هي بيان الكتاب المبين المطوي في آية ((طسم)) هـذه.. وهـذه هي مهمة الرسالة الثانية من الإسلام.. هذا مجال التفاوت في فردياتها.. تلك الفرديات التي تنشأ على أديـم مجتمـع تحكم علائـق أفراده الشريعة التي تقـوم على أصول القرآن..
إن ((شريعة الأحوال الشخصية)) هي أهم شريعة في الإسلام، بعد شريعة العبادات.. ولقد حاولنا، في مضمار الحديث عنها، أن نشقق الحديث عن آصل أصول الدين، لأنها هي من أكبر مجالي، ومجالات، هذه الأصـول الاصلية

كتاب تطوير شريعة الاحوال الشخصية/المفكر السوداني الراحل محمود محمد طه..

مرسا من قبل عادل الأمين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرين عبد الوهاب تحيى حفلاً غنائيًا فى دبى الأسبوع المقبل


.. 146-Al-araf




.. 146-Al-araf


.. الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد مستمرة في الجامع الأموي بدم




.. أحمد الشرع القائد العام لغرفة عمليات المعارضة: هذا النصر الع