الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجهة نظر في التطرف الديني

نورالدين الشريف الحراق

2007 / 5 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يمكننا العثور على أصل جميع أشكال التطرف الديني في العالم في حقائق تم فصلها عن ترابطاتها الأصلية، ففقدت معناها وتحولت إلى شبه فضلات لشيء ما تافه، لأن السياق أو الكيفية التي تم بها التوصل إلى تلك الحقائق أو تلك الأفكار، ضمن علاقاتها التاريخية والمنطقية والروحية قد غمرها النسيان، فتحولت إلى معتقد أعمى، أو إلى مجرد دعاية ليست لها أية علاقة بالإيمان الأصيل أو بالثقة في الحقيقة، أو في قوة الفكرة، تلك الثقة التي ترقى إلى مستوى اليقين الباطني، حينما تؤكدها التجربة وتنسجم مع قوانين العقل والواقع.
ومن هذا المنظور، تسمح المقاربة الباطنية لمختلف الأنساق الدينية عبر العالم باستكشاف مجموعة من التقاطعات العمودية المخترقة لتلك الأنساق، ومن أهمها إرسالية أساسية مفادها أن الفكر المجرد من الإحساس، والمعرفة المجردة من المحبة، والعلم المجرد من الشفقة مآلهم النكران الكامل والفراغ الكلي، بينما الإحساس المجرد من العقل، والمحبة المجردة من التمييز، والشفقة المجردة من المعرفة يؤدون إلى الاضطراب وإلى الانحلال.
وعليه، فإن خطاب مؤسسي كافة الأنساق الدينية عبر العالم لم يُعْفِ الأفراد الملتزمين بتلك الأنساق من ضرورة صياغات جديدة لمضمونها وحقائقها، لأن مقدار فهم أولئك الأتباع و إدراكهم لتلك المنظومات، ونشرهم لها، والدعوة لها، يظل رهينا بالطابع النسبي للخبرات الوجودية المرتبطة بإكراهات الزمان والمكان.
لقد أوضح أولئك المؤسسون طبيعة أنساقهم الدينية بلغة ومفاهيم أزمانهم وأماكن تواجدهم، وحتى ولو افترضنا أن أتباعهم كانوا من صنف خاص فإن هذا لا يغير من الأمر شيئا، ما دامت المفاهيم التي ينشرونها، بالشكل الذي يعتمدونه، وفق ظروفهم الآنية، كانت مكيفة أصلا بشروط الزمان والمكان، ليس فقط على مستوى المعرفي، وإنما أيضا على المستوى اللساني. كما أنه ليس بوسع أولئك الأتباع استباق المشاكل التي لم تحدث بعد وليس بوسعهم صياغتها لأن اللغة التي قد يمكنهم من خلالها التعبير عن تلك المشاكل وفهم طبيعتها، لم تبرز بعد إلى الوجود.
ولنأخذ مثالا لتوضيح هذا الأمر. لو أن محمدا، رسول الإسلام، بُعِث في القرن العاشر أو الخامس عشر الميلادي، وليس في القرن السادس، لكانت طريقة نشره لمنظومته الدينية مغايرة لما هو كعروف في كتب التاريخ لكون الأشخاص المعنيين بها سيكونون قد أضافوا إلى وعيهم وإلى معارفهم، خلال ذلك الفارق الزمني، من خمس إلى عشر قرون من التجارب التطبيقية والذهنية والمعرفية، وسيكونون قد امتلكوا عددا متزايدا من التصورات ومن المفاهيم ومن وسائل التعبير، وستكون لديهم مواقف مستجدة تجاه معطيات وآفاق متحولة، وسيكونون متوفرين على مناهج أصيلة للتعامل معها، وذلك ارتباطا بالسيرورة الثقافية المنطقية للعقل البشري.
إلا أنه من الواضح أن الأشخاص الذين يقدسون الكلمات بكيفية عمياء، ويعطون للحقب التاريخية السالفة أهمية تفوق أهمية الحقيقة ذاتها، لن يقبلوا أبدا بهذا الأمر. ومن جانب آخر بالإمكان ملاحظة الكيفية التي يتعامل بها الأفراد الصادقين والمتعطشين للتحقق الباطني في مختلف الأنساق الدينية عبر العالم إذ أنهم لا يعتمدون بالأساس على الشهادات التاريخية لتلك الأنساق الدينية، ليس لأنهم يشكوا في صدق أو في نزاهة من حافظوا على أشكالها ونشروها، وإنما لكونهم يعتبرون أن التبني، بدون تمحيص، لأنماطها الشكلية المصاغة منذ عصور خلت قد يعرض بنيتهم الذهنية وتوازنهم النفسي لتلف كبير.
لقد تبين أولئك الأفراد أن حقائق حضرة الإطلاق لا يتعين تملكها بعنفوان، قصد الدفاع عنها بالقوة، بل ينبغي إعادة استكشافها بكيفية مستمرة وإعادة صياغتها، حتى تحافظ على معناها وعلى قيمتها الحيوية، أي على قيمتها الغذائية الروحية. لقد تبينوا أن المسائل الروحية لا يمكنها الجمود، مثلها مثل الكائنات الحية، وعندما تتوقف عن النمو، فإنها تتحول إلى أشكال ميتة قد نحتفظ بجثتها، على اعتبار أنها من نوادر التاريخ. ولكن، هل نستطيع ممارسة الفعل نفسه مع الحياة ؟ ومن ثم برزت بالنسبة إليهم ضرورة تجربة نفس الحقائق في أشكال متجددة على الدوام، وذلك ليس عبر التعلق بالنتائج، وإنما عبر زرع ونشر المناهج التي من خلالها يصير بالإمكان امتلاك المعرفة وتجربة الحقيقة بغض النظر عن الإطارات العامة التي تباشر وصايتها على العقل والروح .
والواقع هو أنه إذا ما قام كل فرد بتجربة هذه السيرورة الفردانية، فإن ذلك لن يعني فقط بأن إرادته الذاتية قد صارت حلقة تربط الماضي بالحاضر، وإنما أيضا بأن ذلك الماضي الذي ضُخت فيه الحياة، من خلال التجربة الحاضرة، قد تحول إلى بذرة خلاقة للمستقبل. وبهذه الطريقة، فإن التاريخ يسترجع شكله في الحياة الحاضرة ويصير نوعا من الاستمرارية الإيجابية، وليس فقط شيئا ندرسه ونقدسه، وهو فاقد لقيمته الجوهرية، لكونه منفصلا عن جذوره وعن الشروط الموضوعية لنموه.
علينا أن نفهم أنه لا يمكننا العثور على الطبيعة الجوهرية لمختلف الأنساق الدينية عبر العالم في مملكة الفكر المجرد، أو في معتقدات أضفت عليها العصور الغابرة هالة القداسة المتعالية، ولكن فقط في مدى انتشارها عبر الزمان والمكان، وفي نوعية حركتها، وفي تطورها، وفي محاولة تأثيرها في أشكال الحياة. وعندما ندرك هذا النمو العضوي لمختلف الأنساق الدينية عبر العالم فإننا نَكُف عن إصدار أحكام القيمة على مختلف مراحلها التاريخية، ونصل بالتدريج إلى خلاصة عامة مفادها أن تنوعها وتباينها الظاهري يبرز، على العكس، قوة العنصر المشترك بينها، أي أساسها الجوهري، وهو محاولة ربط الإنسان ببعده الميتافيزيقي، عبر إعطاء تفسير معين لمعنى وجوده في الزمان والمكان داخل مجموعات ثقافية معينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كينيا: قتلى وجرحى إثر تفريق الشرطة مظاهرات مناهضة للحكومة في


.. احتجاج أمام شركة -سيمنز- الألمانية رفضا لتعاونها مع إسرائيل




.. تأثير الذكاء الاصطناعي في الحروب


.. السياسي العراقي فائق الشيخ علي يوجه رسالة لحسن نصر الله: -كي




.. الإفراج عن عشرات أسرى الحرب الروس بعد تبادل للأسرى مع أوكران