الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخنا المجيد ليس تاريخنا !

علاء الزيدي

2007 / 5 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


زعق بي معلم التاريخ في الصف السادس الإبتدائي " عباس ديوان " صابـّا ً لعناته المتتالية على رأسي :
- لك شنو " إبن حَسْنـة " .. قابل هو زعطوط مثلك يلعب وياك ؟!
هذه الغضبة المُضَرية لم تصدر عن إنسان غارق في الورع والتقوى ، بل عن شخص كان مخموراً على الدوام ، حتى في صفوف الدراسة ، التي لم يكن يتورع عن ملء أرضياتها بالبصاق ، بين لحظة وأخرى ، دون اهتمام بنفسيات التلاميذ الصغار وصحتهم وتربيتهم ، ناهيك عن رائحة العَرَق " المْسَيـَّح " الرديء التي كانت تفوح من فمه ، وهو يدرِّس هؤلاء الصغار المساكين " تاريخهم " المجيد !
كل ّ جريمتي أنه سألني عن اسم ذلك الصحابي الذي " فتح " تلك البلاد ، فأجبت بأنه " شـرحبيل بن حَسْنة " – بتسكين السين وليس فتحها – ولم تكن تلك غلطتي . فاسم الصحابي إياه لم يكن مُشكـّلا ً ( مُحَرَّكا ً ) في كتاب التاريخ من الأساس . كما إن أحدا ً من أهلي وأفراد عائلتي وجيراني ومعارفي وأقاربي لم يكن يعرف هذا الصحابي ، ولم يرو ِ لي أحد أية قصة أو حكاية عنه .
تفتح هذه القصة أذهاننا على حقيقة مرة . و هي أن تلاميذنا وطلابنا يدرسون تاريخا ً ليست لهم علاقة به ، وشخصيات لايعرفونها ، وأحداثا ً لاتدخل في صلب اهتماماتهم أو تمثـّل شيئا ً مؤثرا ً في حياتهم الراهنة .
وإذا سألني سائل عن سبب هذا التخبط ، رددت على الفور بأنه المفكر السوري-التركي ساطع الحصري . فقد استـُقدِمَ هذا الرجل إلى العراق إبـّان تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي ، لوضع مناهج تتواءم وطبيعة تفكير المؤسسة الحاكمة ذات الرموز المستوردة ، ومن الطبيعي أن يفصـِّل الرجل مناهج على مقاسات السلطة ، التي لاتني تفتخر بكونها ممثلة أو وريثة شرعية لما تسمى بالثورة العربية الكبرى المنطلقة من الحجاز بدعم أوروبي أو بريطاني تحديدا ً . ومن هنا ، جاءت مناهج ساطع الحصري الدراسية مختصرة وموجزة لطبيعة تفكير السلطة الحاكمة آنذاك ، وهي سلطة عروبية لاعراقية و ذات قشور إسلاموية سنيـّة ، وكذلك أضفى الحصري المعبـّأ بالكراهية الطائفية التاريخية ، العثمانلية والشامية الأموية ، على تلك المناهج أبعادا ً أشد ّ طائفية ً وعنصرية ، وهكذا فقد جاءت المناهج غريبة عن واقع وتاريخ وطبيعة تفكير وتراث الغالبية من العراقيين . وربّما أمكن تلمـّس هذا الأمر بوضوح حتى في كتب القراءة للصفوف الدراسية الأولى في الإبتدائيات العراقية . فمن المستحيل أن تجد في هذه " القراءات " أسماء للشخوص تحاكي الواقع العراقي . ففي الوسط والجنوب ( وهو الشطر الأعظم من العراق ) تشيع أسماء مثل علي وحسين وحسن وعبد الحسين وعبد الحسن وعبد الكاظم وإلخ ... لكنك لاتجد في كتب القراءة إلا أسماء قدري ورازي ودينا ونازدار . ولو سلـّمنا بأن قدري من أصل تركي ودينا مسيحية ونازدار كردية فهل سمعت بعراقي اسمه رازي أو بازي ! إنها الطائفية والشوفينية العمياء التي تسللت حتى إلى التمثيليات والمسلسلات في العهود المقبورة ، حيث لتجد كل الأسماء الغريبة إلا أسماء غالبية العراقيين !
كان ساطع الحصري كتلة من المقت لكل ماهو شيعي وجعفري ، لذلك جاء تاريخنا وجغرافيتنا وحسابنا وكتابنا غريبة عنا وعن رموزنا الحقيقية التي نشأنا وشببنا على احترامها ورضعنا تقديرها وتكريمها مع الحليب . لاحظ مدى كراهية الحصري لنا من المثال التالي :
يذكر الصحفي العراقي الرائد رفائيل بطي في مذكراته التي جمعها وحققها نجله الدكتور فائق بطي تحت عنوان " ذاكرة عراقية " ( المدى ، ج1 ، ط2 ، ص 61-62 ) أن ساطع الحصري مدير المعارف العام يومذاك كان يمارس سلطة دكتاتورية في وزارة المعارف ، وحينما تم افتتاح كلية الحقوق ببغداد وتقدم إليها المئات من خريجي المدارس الخاصة الذين يحملون " تذاكر تصديق " تؤكد أن شهاداتهم تعادل الشهادة الثانوية ، ومنهم خريجو المدرسة الجعفرية في بغداد ، رفض الحصري التركي- السوري هذه التذاكر وركب رأسه معاندا ً حتى تدخّل البلاط الملكي وحسم الأمر بقبولها . ويضيف بطي بأنه كان يحمل أيضا " تذكرة تصديق " من أحد الآباء الدومنكيين تشهد بأنه أنجز دراسته في مدرسة الآباء الدومنكيين في الموصل ، فقصد الحصري سائلا ً إياه تقديره لتلك الشهادة ، فقال الحصري بملء فمه :
- إن التقويم العثماني الذي على منضدتي لسنة 1914 يعد ّ مدرسة الآباء الدومنكيين في الموصل من بين المدارس الإعدادية الراقية ذات الصفوف العشرة .
ويقول الراحل رفائيل بطي إن روعه هدأ بهذا الجواب وخرج من مكتب الحصري غانما ً !
إذن ، فسورة غضب الحصري إزاء " تذاكر التصديق " كانت مجرد مسرحية لمنع الشيعة الجعفرية من الوصول إلى دكـّة القضاء والمحاماة !
بهذه العقلية الضيقة وضعوا لنا المناهج الدراسية ، ولولا دم قلوبنا الذي صرفناه على شراء الكتب المتنوعة ، رغم فقرنا المدقع في الوسط والجنوب ، ونحن نعوم على بحار النفط التي كان ومازال يتنعم بملياراتها غيرنا ، ولولا المنابر والمجالس التي أنارت لنا الدروب المظلمة ، لخرجنا إلى دنيا العمل والحياة لانفرق بين الناقة والجمل كما كان شعب معاوية بن أبي سفيان !
لذلك ، فمن المهام الضرورية بعد توفير الأمن وتوفير المتطلبات الحياتية الأساسية للناس وإعادة الهيبة القانونية لا القسرية والتعسفية إلى الدولة ومؤسساتها ، إعداد ووضع مناهج دراسية منسجمة مع واقع الناس وتاريخهم الوطني الحقيقي . فربما كانت دراسة حياة وسيرة مناضلين وطنيين مثل يوسف سلمان يوسف " فهد " ومحمد سعيد الحبـّوبي وشعلان أبو الجون وغيرهم أهم ّ ألف مرة من دراسة شخصيات وهمية صنعتها الشوفينية والطائفية ، في محاولة منهما لتزيين وتجميل حقب الغزو والهيمنة الأجنبية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يهاجم مجددا مدعي عام نيويورك ويصعد لهجته ضد بايدن | #أ


.. استطلاع يكشف عدم اكتراث ذوي الأصول الإفريقية بانتخابات الرئا




.. بمشاركة 33 دولة.. انطلاق تدريبات -الأسد المتأهب- في الأردن |


.. الوجهة مجهولة.. نزوح كثيف من جباليا بسبب توغل الاحتلال




.. شهداء وجرحى بقصف الاحتلال على تل الزعتر في غزة