الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجميلة ليست قادمة

ليلى فريد

2007 / 5 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كم من معارك تاريخية كان ورائها امرأة فاتنة . هيلين جميلة طروادة هي المثل الكلاسيكي الشهير ؛ ولكن ها هي بعد موتها بألوف السنين ، تتسبب نفرتيتي ( التي يعنى اسمها :"الجميلة قادمة " أو بدقة أكثر :"الجميلة قادمة تتهادى " ) في إشعال نيران حرب بين متاحف مصر وألمانيا .
التمثال البديع لوجهها ورقبتها الموجود حالياً في متحف برلين تم اكتشافه عام 1912 في تل العمارنة بواسطة عالم أثرى ألماني ، صعقه جمال التمثال فتحايل في تهريبه خارج مصر ، بعد أن نجح في إقناع السلطات – التي فشلت في تقدير قيمته الحقيقية – بالسماح له بالخروج به. وفى عام 1920 منحه الممول للبعثة الأثرية التي اكتشفته للمتحف المصري ببرلين .
ومنذ اكتشفت السلطات المصرية الخطأ الفادح الذي ارتكبته بالتفريط في هذه التحفة الثمينة ، بدأت سلسلة المطالبات باستعادته ابتداء من عام 1933. ولكن ألمانيا ، وعلى رأسها هتلر ، أعلنت تمسكها بالثروة الأثرية التي وجدتها بين أيديها والتي وقعت الأمة الألمانية كلها أسيرة هواها .
و أعقب ذلك محاولات عدة باءت كلها بالفشل . وخلال الأشهر القليلة الماضية تجددت المطالبة به – مع بعض التنازلات . فقال المفاوضون المصريون : " إن لم تكن عودة نهائية ، فعلى الأقل اسمحوا لنفرتيتى بزيارتنا لتكون ضيفة الشرف في افتتاح متحف المنيا عام 2010 أو في افتتاح المتحف المصري الجديد عام 2012 ."
و أعلنها المسؤل الكبير عالية مدوية :" لو قُوبل طلبنا بالرفض ، سنحيل حياة هذه المتاحف إلى تعاسة ... سنعلنها حرباً علمية ... " يا ألطاف الله !! كل هذه التهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور من أجل قدوم الجميلة !
ولكن المسئولين الألمان تحججوا بحجج مختلفة لرفض مغادرة نفرتيتي لأراضيهم . فقال أحدهم أن رأسها الرقيق وعنقها الأهيف لا يتحملان مشقة السفر . واستنكر أخر قائلاً :" الملكة نفرتيتي ليست نجمة شعبية يُتوقع منها أن تلف العالم في جولات فنية " . وزعم واحد منهم أن وجود تمثالها في متحفهم قد أكسبها شهرة لم تكن لتحلم بها لو ظلت في مصر . وفلسف أحدهم الموضوع بقوله : " أصبحت نفرتيتي مثلاً رائعاً لإمكانية اندماج المهاجرين في المجتمع الألماني ؛ فقد صارت واحدة منا رغم احتفاظها بخصائصها المصرية ، اندمجت معنا بدون أن تذوب فينا " .
ربما كان استعادة نفرتيتي سيكون مناسبة طيبة لزفة إعلامية ، تلهى الناس قليلا عن معاناتهم وتفرفشهم وتذهب عنهم سأم أيامهم وملل لياليهم ، ومهم لرفع معنويات الشعب المكتئب عن طريق التفاخر والتباهي والاحتفالات والمهرجانات إعلانا للانتصار الساحق في استعادة اٌثارنا المجيدة والفوز المبين على سارقيها وناهبيها .
كل هذه الأهداف لم تتحقق للأسف مع النجاح في استعادة الكثير من القطع الأثرية ، مثل مومياء رمسيس الأول التي عادت من اتلانتا عام 2003 ، وخصلة شعر رمسيس الثانى التي عرضها أحد الفرنسيين حديثاً للبيع على شبكة الانترنت . فرغم وجوب غضب الكبرياء القومي لهذه "الطريقة المهينة " في بيع شعر الملك ، وبالتالى فإن استعادته كان يفترض أن يكون انتصارا للكرامة الوطنية ، فإن المصريين قابلوا هذا الحدث بالبرود وعدم المبالاة .
وهذا الموقف مفهوم إلى حد كبير . فكتلة من الشعر الكالح أو مومياء متيبسة لا يحملان أي إثارة . ولكن تمثال رائع لامرأة ... و أي امرأة ؟! ملكة من نسل ملوك ، وجهها ساحر وعنقها ممشوق كعنق البجعة، شئ مختلف يستحق إعلان الحرب من أجله .

المطالبة باستعادة الاٌثار المصرية وفى مقدمتها رأس نفرتيتي ، وحجر رشيد من المتحف البريطاني ، وتمثال الملكة حتشبسوت من المتروبوليتان ، والقناع الفرعوني من متحف سان لويس للفنون ، ’يعد عملاً وطنياً بطولياً ، لا شك أن من يجرؤ على معارضته سيتعرض لاتهامات لا حصر لها : أبسطها عدم الاكتراث بتراث الأجداد وانعدام الغيرة على ممتلكات الوطن ، وقد تصل لحد العمالة والخيانة ... الخ الخ .
ولكن – يعلم الله- أن غالبية من يعارضون رجوع هذه الاٌثار ، هم أشد الناس إخلاصاً لها وحرصاً عليها . منهم أناس شبوا فوجدوا أباءهم عشاق لهذه الكنوز ؛ فتشربوا منذ الصغر حبها واحترامها والخوف عليها من هبة النسيم .
إذن فلندع قليلاً الاتهامات بانعدام الوطنية وخيانة المسئولية القومية ، وننحى جانباً الشعارات الحماسية ، ولنركز على ما هو أفضل ( ليس لكبريائنا الشخصي ) بل لهذه الكنوز التي لن تعوض .
ونظراً لأن موضوع استعادة الاثار هو موضوع مشحون بالعواطف لارتباطه بالكرامة الوطنية لأي أمة ، فلنحاول أن نناقشه بشئ من العقلانية ومن وجهة نظر الأعراف والمواثيق الدولية . *
وباختصار فإنه رغم أن الملكية الثقافية للأعمال الفنية والأثرية الخاصة بأي دولة ، هي حقيقة لا مراء فيها ؛ فإن خطوط التماس بين ما يسمى بالثقافة القومية أو الوطنية Cultural Nationalism والثقافة العالمية أو الدولية Cultural Internationalism لا تجعل الموضوع بهذه البساطة .
ففي مقابل ضرورة حماية البلدان الأصلية من الإفقار الثقافي الناتج عن نزع كنوزها ، هناك المفهوم المتنامي بأن هذه الكنوز هي تراث إنساني ملك للبشرية جمعاء ، والمحافظة عليها هو واجب عالمي . وبالتالي يجب أن يُمنح حق الاحتفاظ بها للدول التي تستطيع أن توفر الموارد والظروف الكفيلة بعرضها بصورة مشرفة ، تسمح لجميع الأجناس والشعوب بالتمتع بها ، وتضمن حمايتها وصيانتها للأجيال القادمة .
ولذا فالعقبات التي تحول دون عودة هذه الآثار لمصر كثيرة ، و أوضحها ما يلي :
 معظم القطع الأثرية ذات القيمة الكبيرة قد خرجت من مصر قبل عامي 1954 و 1970 وهى الأعوام التي أُعلنت فيها الاتفاقات الدولية المنظمة لملكية الآثار والُمضيقة الخناق على التجارة فيها . ( اتفاقية هيج عام 1954 واتفاقية يونسكو عام 1970 ) . وبنود هذه الاتفاقات لا تسرى بأثر رجعى ، وبالتالي فإن الوقت الذي تم فيه استحواذ المتاحف العالمية على الكنوز المصرية لم يكن فيه قوانين دولية مُحرمة لذلك .
· يتفق مديرو المتاحف الكبرى على أن أي سابقة قانونية تقضى بإرجاع عمل أثرى ستفتح باباً لن يغلق بسهولة ، وقد يؤدى إلى حرمان هذه المتاحف من جمع وحفظ وتصنيف الكنوز الحضارية ، مما يبطل الهدف الأصلي من إنشائها ؛ وبالتالي فهم يجمعون على معارضة هذا التيار بكل قوة .
· يرى الكثيرون ( ومنهم مصريون شديدو الإخلاص للوطن ) أن عرض هذه الاٌثار بهذه الصورة المبهرة في أشهر متاحف العالم ، تؤدى خدمة لا تقدر بثمن لمصر؛ فهي أفضل سفير ثقافي ، يُعظم من قيمتها ويُشجع على السياحة إليها .
 لا يستطيع أحد أن يزعم أن هذه المتاحف قد قصرت في المحافظة على آثارنا ، أو بخلت بأعلى التقنيات من أجل الحفاظ عليها من العوامل الجوية ومن التحلل ومن خطر الحريق ، أو تراخت في حمايتها من السرقة أو الضرر . وبنفس الدرجة لا يستطيع أحد أن يتظاهر بأن مصر تملك ولو أعشار هذه الإمكانات سواء المادية أو البشرية .

ولأن موضوع استعادة الآثار هو موضوع خلاف على المستوى العالمي ، فإن الاتجاه المتحضر الآن يميل إلى أساليب توافقية – تسعى لفك الاشتباك بين المتنازعين – منها :
· تطوع المتاحف الكبرى ( في أحوال خاصة ) بإعادة ما بحوذتها من اٌثار لبلادها الأصلية ؛ رغم عدم وجود نص قانوني يلزمها بهذا . وذلك استجابة للرأي العام العالمي ، وتفادياً للدعاية السلبية التي قد تؤثر على مكانتها العالمية .
 التعاون المبنى على الثقة المتبادلة بين متاحف العالم ، والذي بموجبه يتم تبادل الآثار على سبيل الاستعارة الطويلة الأمد .

وفى النهاية وبعد استعراض كل هذا ، تُرى لو سألنا نفرتيتي نفسها عن رأيها فما عساها تقول ؟!
أتصور أنه ربما تفكر الجميلة في زيارتنا في الأحوال التالية :
 لو تعلم المصريون كيف يستقبلون ويودعون ويحيون ملوكهم وملكاتهم القدامى بالأسلوب اللائق بهم . فحتى الآن لم تكن النماذج مشجعة :
- في العام الماضي صاحب موكب الملك العظيم رمسيس الثانى ( الذي دوخناه معنا ؛ فنزعناه من معبده فى ممفيس لنصلبه في وسط باب الحديد، ثم نسحبه في قفص ليرقد قرب أهرامات الجيزة ) هتافات مضحكة مبكية على شاكلة : " بالروح بالدم نفديك يا رمسيس " !!
منذ سنوات استقبلت مصر ممثلة حاولت تجسيد شخصية الملكة كليوباترا بمبالغات مسرحية ، فمُد لها البساط الأحمر ، وعُوملت كما لو كانت الملكة الحقيقية ؛ بينما تماثيل و اٌثار الملكة الحقيقية ، وغيرها من ملوك وملكات مصر ، تقبع في سراديب مهملة ولا تنال ما تستحقه من احترام وعناية .
 لو تعهدنا لها بأن نكرم وفادتها ، ونصونها من عوامل التلوث والإهمال والفساد ، التي لم تترك ثغرة في حياتنا لم تتسرب إليها ، والتي قد تؤدى إلى الإضرار بها بصورة أو بأخرى .

ولكن من المؤكد أن الجميلة لن تقدم على ترك موطنها الحالي الذي تعيش فيه معززة مكرمة والعودة إلينا إلا لو أعطيناها ضمانات مؤكدة " وبصمنا لها بالعشرة " على ما يلي :
 أن لايصيبها ما أصاب كنوز أخرى لن تعوض من بلايا لا عد لها ولا حصر : مياه جوفية تتسرب لأساساتها ، كم هائل من تلوث بيئي يخنقها ، ضوضاء تزعجها و هزات حركة مرورية مجنونة تقلقل الأراضي من تحتها ، إهمال وتسيب و انعدام سجلات موثقة لها ، بالإضافة إلى اختفاء وضياع الكثير والكثير منها بسبب شيوع الفساد والسرقة وانعدام العقاب الرادع .
· أن لا تصدر يوماً فتوى بتحريم التماثيل ، تنتهى بالإطاحة بعنقها الجميل .
وكيف تستبعد الجميلة ذلك وقد شهدت في العام الماضي كيف أن فتوى من هذا النوع قد دفعت بسيدة منقبة إلى الخروج من بيتها في منتصف أحد الليالي متجهة إلى متحف حسن حشمت ، لتسلق السور وتحطم ثلاث من القطع الفنية!!
وكيف تطمأن الجميلة وهى لم تر أن تحطيم تماثيل بوذا على يد الطالبان قد قوبلت من غالبية المصريين بالهلع والاستنكار والإدانة الواضحة الصريحة !!

ومن المستحيل" وبعيد عن عيننا " أن ترضى الملكة المصرية بالاستقرار في بلدنا طالما يحتل نسبة محترمة من مقاعد برلماننا أعضاء جماعة يقول زعيمها بالفم المليان: " طظ في مصر " .
* Aisha Y. Salem, Finders Keepers? The Repatriation of Egyptian Art, Journal of Technology, Law & Policy, June 05, Vol 10, Issue 1








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح