الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن وبناء الشخصية

أمياي عبد المجيد

2007 / 5 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الكثيرون هم الذين يمارسون ويتذوقون الفنون بمختلف أنواعها، لكن القليلون هم الذين يعرفون أن ما يمارسونه أو يتذوقوه هو رسالة كونية عظيمة ، ونتاج إنساني يرتبط ارتباطا وثيقا بشيء اسمه الحضارة الإنسانية . سأبدأ بطرح سؤال بريء جدا :
كيف يمكن للفن أن يحدد قيمة الشخصية كمعطى له دلالات في الواقع ؟ هذا السؤال في اعتقادي يدفعنا بشكل تلقائي إلى القول بان الفن كظاهرة اجتماعية أصبح رافدا أو محايثا للبناء الشخصي عند الفرد ، هذا الأخير الذي يبحث عن الارتقاء الاجتماعي والمكانة المرموقة . وهنا يطرح سؤال أخر ، هل الشخصية هي تحديد لقيمة إنسانية يكتسبها الإنسان مع مرور الزمن ، أم أن الشخصية تخضع لتأثيرات خارجة عن سياق التنشئة الاعتيادية ، كالتأثير الوجداني مثلا ؟ أستطيع أن أقول بان الربط بين الفن وبناء شخصية الإنسان لم تكن مسالة اعتباطية بقدر ما كانت حاجة ورغبة تطلعية لتحسين التكوين الذاتي والجماعي عند الأشخاص ، وربما يعلم بعضنا أن اللفظة personnalité مشتقة من الكلمة اللاتينية (Persona ) التي تدل على القناع الذي يضعه الممثل المسرحي على وجهه قصد إضفاء تصور معين على طبيعة الدور الذي يقدمه للشخصية التي تقمصها ، يبقى القول هنا لماذا المسرح بالذات ؟ ببساطة لان المسرح بغض النظر عن تاريخه الطويل وجزئياته المعقدة، فهو كممارسة فنية يتيح لكل أشكال التعبير أن تكون متجانسة ، ففي المسرحية نستطيع أن نغني ونرسم ونكتب وهو من هذه الزاوية يشكل تصغير منمق لحياة فنطازية تعد مرتبات بناء الشخصية .
ولعل ربط الفن ببناء الشخصية جاء كادراك من الإنسان أن نظام إقرار التميّز يتحدد مع وعيه بهذه القيمة ( الفن كفاعل ) وتعبير عن الحرية، وامتلاك الإرادة .ولا يمكن أن نتصور هذا الدور الذي ندعيه دون الرجوع إلى قيمة الواقع كأساس لقياس المساهمة الجدية للفن في تفعيل الشخصية التي نحاول أن نبرز ملامحها هنا ..لان على هذا الواقع بالتحديد تعكس الخلجات الإنسانية، فهو (الوقع ) كالمرأة التي تعكس صور الأوجه ومنه نقيس مستوى التناقضات وحجمها .
الفن في التنشئة الاجتماعية
ــــــــــــــ
في طبيعة الحديث عن التنشئة الاجتماعية فنحن ندرك مجموعة من التحولات التي يستقبلها الفرد من محيطه الاجتماعي كقيم تعكس ميزان التطور عند هذا المجتمع أو ذاك ، وهي بالتالي ( أي التنشئة الاجتماعية ) تكييف للذات مع مكتسبات المجتمع ، وتطوير لمقومات المعرفة والقيم وأدوات الإدراك التي يتعاط الفرد معها انطلاقا من المحيط حتى تتحول بهذه الحركية إلى تناسق يتم تداوله في اليومي، والملموس ،ويمكن أن يكون جزءا من الذات النفسية للشخص . وبما أن الفن هو قيمة جمالية وتعبير عن قيم داخل المجتمع الذي يكتسب منه الشخص معارفه وبناءه لذاته ،يصبح السؤال القائل هل المجتمع بحاجة إلى فنانين قد سقط ومتجاوز، وحل محله سؤال التفاعل مع الفنانين، أي كيف يمكن للفنان أن يصوغ مقومات جمالية يتفاعل معها الأشخاص ويصبح بما يقدمه من إنتاج فني ( مسرح ، تشكيل ، موسيقى...) قادر على بناء الجزء المتجاوب للتأثير" ألقيمي" الجمالي في أي شخصية .
من زاوية التفاعل الجمالي داخل إطار اجتماعي يحترم الرغبة الجماعية والفردية تولدت لدى الإنسان مجموعة من القيم الدافعة، أي تلك القيم التي ترغبه في رسم مسار لحياته الشخصية وفق الإرادة، وهذا ما يتجلى في رغبة الإنسان العاقل في ابتكار استراتيجيات جديدة لتكون محصلة لجهد قام به الشخص خاصة على المستوى المعرفي والوجداني ، هذان العنصران اللذان يُكوّنان بالضرورة مع التفاعلات التي يجب أن تحدث الهاجس الذي يحتم على الشخصية الاستجابة بضبط السلوك .
يتضح أن التنشئة الاجتماعية بقدر ما هي تراكمات لمجموعة من القيم ،هي أيضا الحد الفاصل بين صفات الجمال والقبح، فعندما نستأثر ونجتهد لبلوغ حد معين من الرقي نستنتج بشكل تلقائي أننا بذلنا ذلك المجهود على حساب تخطي كل شيء لا علاقة له بالجمال والرقي الإنساني ، وبالتالي يمكننا تلمس مجموعة من التفاعلات كانعكاسات لتك القيم الفنية :
-1- العمل البيولوجي والسيكولوجي : يتم إكساب الشخص نمطا في التعامل الحركي والذوق الحسي المرتبط باستخدام أجزاء عصبية قابلة للتفاعل التام مع المتغيرات المحيطة .
-2- عامل التعبير : يمكن إدراج طريقة التفكير التي تسود عند مجموعة من الذائقين للأنواع المختلفة من الفنون وتنوعها حسب الصور التي يكتسبونها في كل فن من الفنون .
-3- استنهاض معاني الروح، وتكييفها مع الحس الجماعي للمحيط والرقي الروحي ، ويكون في النهاية الفن هو ذاك المعطى الحاوي لمجموعة من القيم التي تدخل في صلب التربية على تقوية الإحساس بالغير، وأيضا إمكانية تفعيل أعراق مختلفة في جلسة فنية فهو لا يعترف بالحدود ولا يقيم أي وزل للأجناس من حيث نوعهم .
تحقيق الذات
ــــــ
فيما سبق يمكن استخلاص فكرة أساسية كمدخل لتركيب خلاصة البناء المنهجية الكامنة في أبعاد الفن المختلفة ، إننا ندرك تماما أن الفن هو الذي سمح ويسمح بإحداث طفرة في الشخصية الإنسانية، والاهم من ذلك يبدو أن الدخول في معرفة جزئياته ، وممارسته يحذو بنا إلى تحقيق الذات ،وبناء شخصية ذات أبعاد مختلفة، بالتأكيد ستكون مغايرة للشخصية الأولى ، وهنا استحضر جملة لهيجل قال فيها :" بفضل الفن تتاح لنا القدرة على أن نكون الشهود المحزونين على الفظائع كافة وعلى أن نحس بالأهوال، والمخاوف جميعا "، وهذا تصور في الحقيقة يحيلنا إلى استنتاج آمر مهم وهو : أن الفنان المتذوق للفن يدرك الأبعاد الشخصية لكل الأنواع البشرية وهو الوحيد الذي يمكنه أن يدرك معاناة غيره أكثر من إدراك غيره للسعادة !
وتحقيق الذات عبر الإدراك الفني لا تقف كما يحققها الكثيرين في أمور أخرى عند نيل المراد والمبتغى ، وإنما هي في الفن استمرار لتوجه إنساني وتعبير عن كونية الرسالة التي من اجلها يخوض الشخص غمار التجربة، أو بالتعبير الأدق المغامرة . وأيضا وهذا هو المهم في تجربة تحقيق الذات عن طريق الفن تلك المراحل التي يجب على الشخص أن أن يعيشها بكل جزئياتها ويدرك كل لحظة ،ويفسر لغز كل ما هو غامض بل الأكثر من ذلك يجب أن يكون على دراية بماهية كل شيء يحيط به أثناء ممارسته للعمل الذي من اجله يبتغي تحقيق الذات .
يمكن القول بان الفن لا يمكن اختزاله في جانب تحريكه للمشاعر في لحظة معينة وفي مكان معين ، وإنما هو عندما يكون متجاوبا مع شخوص جديين يستطيعون أن يتجاوبوا يمكن أن يتعلموا كيف يمكن تطوير شخصياتهم حتى تتجاوز في إحساسها" مدى الطبيعة" ، وسنكون قد وفقنا في خلق مجتمع يدرك أن لكل شيء قيمة والقيمة مقياس فبقدر ما نكون مجتمع قيم بقدر ما نقاس على أساسها .
* كاتب مغربي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ماذا عن إصدار محكمة عسكرية حكما بالسجن سنة بحق المعارض


.. مشاهير أمريكا. مع أو ضد ترامب؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الولايات المتحدة وإسرائيل ..الدعم العسكري| #التاسعة


.. ما هي التقنيات الجديدة لصيانة المباني الشاهقة؟




.. حماس تتهم إسرائيل بقطع الطريق على جهود الوسطاء | #غرفة_الأخب