الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا نريد من العلمانية ؟

محمود الباتع

2007 / 6 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ترتبط العلمانية في أذهان الكثيرين منا باللادينية أو الإلحاد وبناء عليه فإن معتنقها يتلقى حكماً مسبقاً بالإدانة من قبل المجتمع المسلم الذي ينتمي إليه، ولعل أحد أوضح تعريفات العلمانية وأكثرها إيجازا هو التعريف الذي أطلقه عنها جون هوليوك المتوفى سنة 1906 حيث وصفها بأنها " إمكانية إصلاح حياة الإنسان العملية بالوسائل المادية بدون إقحام المعتقدات الدينية سواء بالرفض أو القبول " ، وفي الواقع أن كلمة العلمانية هي ترجمة غير دقيقة للكلمة الإنجليزية "سيكيولاريزم" والتي يمكن تفسيرها بـ "الإنسانية" أو "الحياتية" أو كل ما ينتمي إلى الحياة المعاشة من شؤون يومية وعملية يمارسها الإنسان بغض النظر عما يدين به أو يعتنقه من أديان أو عقائد، أما في المجال السياسي كانت مقولة "فصل الدين عن الدولة" هي التعبير الأكثر شيوعاً عن العلمانية وهذا التعبير هو الآخر ليس إلا نقل غير دقيق للفكرة التي شاعت في أوروبا في أعقاب الحروب الدينية التي اجتاحت تلك القارة في القرون الميلادية الوسطى والتي أججتها المشاعر الدينية المتعصبة التي كان للكنيسة الدور الأكبر في بثها وإذكاء نيران الخلاف بين المتحاربين حتى انتهت تلك الحروب بتوقيع معاهدة أو صلح "فيسفاليا" عام 1648 والذي تم الاتفاق بمقتضاه على إقصاء "الكنيسة" أو تحديداً "المؤسسة الكنسية" عن التدخل في الشأن السياسي السياسي للدولة بغرض "أنسنة" الشأن السياسي للدولة وإبعاده عن المؤثرات الدينية التي تضفي عليه هالة من الحرمة بغرض جعله شأناً إنسانياً قابلاً للمناقشة والنقد والتعديل بل وحتى النقض عندما تقتضي الضرورة، وكانت هذه هي الفكرة التي جاءتنا مشوهة مع الحملات الاستعمارية الأوروبية على "شكل فصل الدين عن الدولة".

كانت بلادنا العربية والإسلامية تخضع لنظام حكم فريد قل شبيهه في التاريخ حيث السلطان أو الخليفة والذي هو رأس الدولة الإسلامية كان بالضرورة إمام الأمة الإسلامية بالمعنى الفقهي والإداري للكلمة وكان العمل بالشريعة الإسلامية هو المنهج الذي سارت عليه ولو ظاهرياً أنظمة الحكم الإسلامي المتعاقبة ولم يكن في الدولة الإسلامية مؤسسة دينية توازي الكنيسة في أوروبا كما لم يكن عند المسلمين منصب يوازي منصب البابا لدى الكنيسة الأمر الذي شكل فارقاً جوهرياً بين التركيبة السياسية في المجتمع الإسلامي وتلك الت كانت قائمة في أوروبا، وقد أدى التبشير الاستعماري بفصل الدين عن الدولة إلى نشوء مثل تلك المؤسسات نشأة جاءت غير سوية وغير طبيعية أدت إلى انبثاق ظاهرة الجماعات الإسلامية أو الإسلام السياسي بكل ما اعتراها من تطرف وعداء للدولة التي تم تجريدها عن دينها كما كما تم نزع الأفق السياسي عن الحركات الدينية أو عن معظمها على الأقل.

عندما كان الفيلسوف الإنجليزي سير روبرت فيلمر في القرن السابع عشر يعتبر أن لا حرية طبيعية للإنسان لا في ظل أسرته ولا مجتمعه ولا دولته وإنما هناك سلسلة من التبعيات التي تقيده بمجرد ولادته، فهو تابع لأبيه الذي يتبع المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه والذي يخضع بدوره لسلطة الملك الذي ورث شرعية السلطة عن الملك الأول للبشرية وهو آدم بموجب ما منحه إياه الرب من تفويض إلهي. وهكذا ومن خلال التسلسل المنطقي توصل فيلمر إلى أن سلطة الأب في الأسرة وسلطة الملك في الدولة إنما هي امتداد وراثي لسلطة الله في الكون، أقول أنه بينما كانت هذه العقلية تسود أنظمة الحكم في أوروبا كانت أصداء نداء الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في الناس لا تزال تتردد عندما قال " لقد وليتُ عليكم ولستُ بخيركم فإذا أحسنت فأعينوني وإذا أخطأت فقوموني " ليرد عليه أحد العامة صائحاً بفظاظة " والله لنقومك بسيوفنا "، بما يعني أن عمر بن الخطاب وهو على ما هو عليه من شأن في الرسالة وفي الدولة الإسلامية إنما كان يتلمس مصادر سلطته من الشعب وليس من أحد غيره دون ادعاء بكونه كلمة الله على البشر أو أنه ظل الله على الأرض أو أي شيء من هذا القبيل.

ربما يغضب البعض من هذا، ولكن بالإمكان الزعم بأن الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة وما تلاها من دولة الخلافة الراشدة كانت أكثر علمانية وديمقراطية وواقعية من هذه الأنظمة التي قامت في بعض البلاد الإسلامية هذه الأيام والتي تتشدق بالحرية والمساواة بينما ترتعد فرائصها من منظر امرأة رأت بملء إرادتها واختيارها الحر أن تضعها على رأسها من باب الاحتشام أو العفة أو ما شابه في أمر يتساوى في ظلاميته مع أولئك الذين يصمون بالكفر كل امرأة تختار بملء مشيئتها الحرة عدم ارتداء الحجاب بناء على قناعات شخصية ليس لأحد أن يتدخل فيها، وإنه لمما يشي بكثير من الخواء والوهن الذي يعتري البنية الفكرية والاجتماعية والفلسفية لهذه العقليات التي أريد لها أن تتسلط على رقاب وعقول وضمائر الناس للأسف. إن اختزال قضية التنوير والحداثة وكذلك قضية الإيمان من عدمه في جسد المرأة وجعله ميداناً لحروب ثقافية وفكرية لا طائل من ورائها ما هو إلا إفلاس فكري مدقع يبتعد بنا عن جوهر القضية الحياتية والإيمانية وهي قضية الإنسان الذي لم يوجد هذا الكون بكل مافيه وما احتواه وما أفاض الله به عليه من أفكار وفلسفات ومبادئ وحتى عقائد وأديان إلا من أجله وفي خدمته وفي سبيل سعادته واستقراره وراحته حتى يتفرغ لرسالته الحقيقية في هذه الدنيا وهي عمارة الكون، وكما يقول القرآن الكريم " طـه .. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى !"

إن أشد ما يهدد العلمانية هو تحويلها إلى عقيدة سلطوية فوقية مقدسة في مواجهة الدين، فالعلمانية ليست حزباً سياسياً أو ديناً سماوياً أو غير سماوي ولكنها نظام حياة مدنية قائمة على المبادئ الإنسانية من قيم وأخلاقيات احتواها الإسلام قبل أن تحتويها إية نظرية وضعية ، فالدولة العلمانية الحقيقية هي تلك التي تتيح لكافة أبنائها حرية العقيدة وحرية الرأي دون تدخل منها أو وصاية على أي منهم على قاعدة " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ، ولكن ما نراه اليوم من أدعياء ومدعي العلمانية هو أنهم لا يريدون ولا يطالبون إلا بحرية الكفر وحدها دون أن يتيحوا لحرية الإيمان متنفساً، فعندما يكون العري والخمر والمخدرات والشذوذ وتعدد العلاقات الجنسية من باب الحرية الشخصية الواجب احترامها يريدون للعفة والوقار والالتزام والورع أن تكون من الموبقات التي يجب سحقها والقضاء عليها باسم الحداثة والتحرر، وعندما يكون شتم الخالق والأديان والأنبياء رأياً يقال من باب حرية التعبير التي يكفلها القانون في حين أن مجرد انتقاد الحكومة أو الحزب أو الرئيس أمر يودي بصاحبه إلى ما وراء المجرات، أليس ذلك مدعاة للعجب وفوقه كثير من القرف والاشمئزاز ؟

لقد كان الغلو والتطرف هو آفة العلمانية كما هو آفة الأديان وكما هو آفة كل شيء التي تعمل من حيث لا تعي في اتجاه يؤذي ويضر ويقضي على على القيمة التي كان التطرف من أجلها وفي سبيلها، فبينما نرى آثار التطرف الديني ونتائجه تزداد وضوحاً كل يوم فإن التطرف العلماني في غياب العقل الإنساني هو ما سيؤدي في النهاية
إلى الإطاحة بكل قيم العلمانية الحقيقية التي تنادي بها العلمانية.

في النظام السياسي العالمي الراهن وخصوصاً هذا الواقع المفروض في بلادنا العربية التي تحتوي فيه عدد من الدول العربية على خليط غير متجانس من القوميات والمذاهب والأعراق يؤمن كل منها بما قد لا يؤمن به الآخر، فإن قيام دولة دينية فيها أو في بعضها سيؤدي حتماً إلى تحويل الفئات التي تعتنق ديناً مغايراً لدين تلك الدولة إلى مجرد أقليات أو جاليات في بلادها الأمر الذي سيقودها إلى الشعور بالغبن وبالتالي إلى الثورة والاصطدام بالآخر وربما السعي إلى الانفصال، ومهما يمكن أن يقال عن قيم التسامح والتعايش والإخاء فإن هذا لن يمنع حدوث صدامات ومواجهات بين أبناء الوطن الواحد كما رأينا من حروب مقيتة بين أبناء الوطن الواحد في كل من العراق والسودان وقبلهما لبنان عندما دفعت تلك المواجهات بتلك الأوطان إلى حافة هاوية التفتيت والتقسيم. يدفعنا هذا الخوف إلى أن ننادي ونعمل على إقامة دول ذات عقليات علمانية حقيقية تقوم على أساس سيادة القانون وتساوي بين جميع مواطنيها أمامه بغض النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم الفكرية ولا تتدخل في أديان أبنائها ولا تفرض عليهم منظوراً عقائدياً معيناً وتحترم خيار كل منهم في ما يؤمن به دون سلطان لأحد فيها على عقل الآخر من منطلق أن كل نفس بما كسبت رهينة، والله كفيل بأن يجزي كل نفس بما كسبت وبما اكتسبت، وكما قال أحدهم ذات مرة " آمن إن شئت بالحجر .. ، ولكن لا تقذفني به" !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال