الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأزق تركيا المعاصرة: حجاب السيدة أردوغان، أم العسكرتاريا؟

صبحي حديدي

2007 / 6 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حتى ساعة كتابة هذه السطور، لم تكن الأنباء قد حملت خبر نجاح مجلس النوّاب التركي في إقرار التعديل الدستوري الحاسم الذي سيجعل انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع الشعبي بدل التصويت داخل البرلمان. وكان المجلس قد أقرّ التعديل في قراءة أولى، بأغلبية شبه مطلقة بلغت 367/1، ثمّ انعقد للمرّة الثانية يوم أمس للغرض ذاته بعد أن استخدم الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر حقّ النقض ضدّ التصويت الأوّل. ولأنّ المعارضة متفقة حول التعديل مع حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، فضلاً عن أنّ الدستور لا يمنح سيزر الحقّ في نقض التصويت الثاني، فالأرجح أنّ التعديل سوف يُقرّ، وسيطوي بذلك صفحة عاثرة في سجلّ الديمقراطية التركية، أتاحت للعسكر المزيد من إحكام القبضة على الحياة السياسية والمدنية.
وطيلة عقود عديدة، بات من المتفق عليه ضمناً أن يكون رئيس الجمهورية إما جنرالاً، عاملاً أو متقاعداً، وإما مدنياً متحالفاً على نحو وثيق مع الجيش، وخاضعاً لإرادة الجنرالات في سلسلة من المسائل الحساسة الكبرى، السياسية والأمنية والحقوقية. والتطورات بعد انتخاب الرئيس المدني الثاني تركوت أوزال علم 1989، والثالث سليمان ديميريل عام 1993، ثبتت هذا المبدأ تماماً، ويكفي أن نتذكر أنّ ديميريل عانى من انقلابين عسكريين وتعرّض مراراً للحظر من العمل السياسي؛ وأنّ موقف الرئيس الحالي المناهض لانتخاب الرئيس عبر الاقتراع الشعبي يعكس بقوّة مزاج العسكر، إلى جانب أن سيزر نفسه يميل عموماً إلى الخطّ المحافظ ومهادنة الجنرالات.
ولكن هل سينهي التعديل الدستوري المعركة، لكي لا نقول: الحرب المفتوحة، بين الجيش والحزب الحاكم؟ وفي صياغة أخرى، ولأنّ المعركة لا تدور في حقيقة الأمر بين صفّ علماني متجانس متماسك وصفّ إسلامي مقابل يتّصف ايضاً بالتجانس والتماسك، هل انتخاب إسلامي ـ على غرار عبد الله غول، أقلّ أو أكثر اعتدالاً ـ هو جوهر الأزمة الراهنة؟ وسوى هذا التوسيع لدائرة صراع ليست ضيّقة ولا تقتصر على ملفّ سياسي واحد مثل انتخاب الرئيس عبر صندوق الاقتراع الشعبي أو صندوق التصويت البرلماني، كيف نفهم التوتّر الذي تعيشه مؤسسة المحكمة الدستورية، أعلى جهة دستورية في البلاد، والذي بلغ حدّ لجوء رئيسة المحكمة، تولاي توغجو، إلى عقد مؤتمر صحفي (نادر وغير مألوف) أعلنت فيه العزم على إحالة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى القضاء بتهمة التهجّم على المحكمة (رغم معرفة توغجو أنّ أردوغان يتمتع بحصانة قانوينة، بوصفه عضواً في البرلمان وليس رئيس وزراء فحسب)؟
لعلّ من الخير، في سبيل فهم اعمق لطبيعة الازمة، أن يتوقف المرء عند أخبار من تركيا ليس من عادة وسائل الإعلام الغربية، والأمريكية خاصة، أن تتناقلها كما تتناقل أخبار تظاهرة المليون في قلب إسطنبول يوم أول أيار (مايو) الماضي، دفاعاً عن العلمانية وضدّ وصول شخصية إسلامية إلى منصب رئيس الجمهورية. يندر، مثلاً، أن يعثر المرء في صحيفة غربية على تفصيل يقول إنّ الشعار الرئيسي في تظاهرة المليون تلك كان التالي: "لا للشريعة، لا للإنقلاب العسكري، نعم لتركيا ديمقراطية". ذلك لأنّ الشارع التركي يدرك أنّ الخوف على الجمهورية لا يتأتى فقط من احتمال وصول وزير الخارجية عبد الله غول، القيادي في حزب "التنمية والعدالة" الإسلامي صاحب الأغلبية في البرلمان، إلى منصب بروتوكولي محض في نهاية الأمر. هنالك أيضاً ذلك الشبح الدائم الذي يخيّم على الحياة السياسية التركية، أي احتمال قيام الجيش بالانقلاب العسكري الرابع تحت ذريعة الدفاع عن النظام العلماني، وباعتبار الجيش هو الضامن للنظام العلماني الذي أسّسه عسكري تركيا الحديثة الأوّل مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923.
والحال أنه إذا كان الحزب الإسلامي الحاكم يحقق مكاسب انتخابية، وإيديولوجية أيضاً، في الشارع الشعبي التركي العريض، فإنّ بعض السبب يعود إلى النجاحات الاقتصادية التي حققتها وتحققها حكومة أردوغان باعتراف الخصوم قبل الحلفاء من جانب أوّل، وكذلك الضرر الذي يُلحقه العسكر بالنظام الديمقراطي وانتهاك حرية التعبير وحقوق الإنسان من جانب ثانٍ. ونضرب هنا مثالين وقعا قبل أسابيع قليلة، بين عشرات الأمثلة الأخرى التي قد لا تصل أصداؤها حتى إلى الصحافة التركية ذاتها، ولكنها تترك آثارها العميقة في وجدان المواطن التركي، وتسهّل على الإسلاميين اختراق المزيد من الشرائح الاجتماعية عن طريق إقناعها بأنّ الإسلام نظام بديل يمكن أن يكون أكثر عدلاً واعتدالاً في الآن ذاته.
المثال الأول هو قرار القاضي الفرد العسكري باعتقال الكاتب والناشر فاتح تاس، صاحب دار النشر التقدمية المعروفة "آرام"، وذلك بسبب نشره كتاباً بعنوان "نزعة التدخّل الأمريكية" للمفكر الأمريكي الشهير نوام شومسكي. لكنّ القضاء المدني، ليس دون الوقوع تحت الضغوط الدولية التي قادها شومسكي نفسه حين جاء إلى إسطنبول وحضر المحاكمة، برّأ تاس من التهمة العجيبة التي كان القضاء العسكري قد وجهها إليه، وهي "نشر موادّ دعاوية تستهدف النيل من وحدة البلاد". وجدير بالذكر أنّ القضاء العسكري ذاته كان، في عام 2005، قد ساق تاس نفسه إلى محاكمة مماثلة بعد نشره كتاب الأمريكي جون تيرمان "غنائم الحرب: الكلفة الإنسانية لتجارة السلاح الأمريكية".
وفي مطلع نيسان (أبريل) الماضي، أمر القاضي العسكري بالإغارة على مكاتب المجلة الأسبوعية Nokta، التي تعتبر ليبرالية خالصة ولا علاقة لها بأفكار شومسكي أو اليسار التركي، وذلك لأنّها نشرت مذكرة عسكرية سرّية تتضمن حثّ الجهات الأمنية على وضع عدد من منظمات المجتمع المدني وبعض وسائل الإعلام على اللائحة السوداء. السبب الثاني أنّ Nokta نشرت تقريراً مفصلاً موثقاً حول مخطط انقلاب كان الجيش يعتزم القيام به سنة 2004، ضدّ حكومة رجب طيب أردوغان. ولقد جرى احتلال مكاتب المجلة طيلة ثلاثة أيام، واُجبر الصحافيون على مناقشة مصادر معلوماتهم، وصُودرت وثائق ومراسلات خاصة، ونُسخت كامل محتويات القرص الصلب في بعض الكومبيوترات. وبالطبع، لم تثر هذه القضية أيّ ردود أفعال في الغرب أو الولايات المتحدة، رغم أنها انتهاك صريح لحرية الصحافة وحقّ التعبير، ورغم أنّ حكومة أردوغان كانت ستتعرّض لفضيحة مدوية لو أنّ أحد أجهزتها المدنية قام بالإغارة على المجلة.
نحن، إذاً، امام كيل بمكيالين: من جهة أولى يطنب الغرب في امتداح النظام العلماني التركي بوصفه أحد أرقى نماذج الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي (ولكن لا بأس من التعاون مع الجماعات الإسلامية العراقية، شيعية كانت أم سنّية، رغم تشدّدها الديني والعقائدي)؛ ومن جهة ثانية يفرط الغرب في التهويل من قضية بسيطة هي ترشيح إسلامي لمنصب فخري بلا صلاحيات، ويسكت عن مذكرة إنقلابية وجهها العسكر إلى البرلمان وساهمت في إبطال جولة الإنتخابات الرئاسية الأولى (رغم أنّ آخر رئيسين انتُخبا بنفس الطريقة، وبنصاب قانوني أقلّ من المطلوب دستورياً).
والواقع أنّ هذا التوتر الراهن ليس سوى استئناف لآخر جولة من جولات الصراع بين الحكومة المدنية والجيش، والتي جرت في خريف 1998 حول المدارس الإسلامية، وضمّت رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان وجنرالات «مجلس الأمن القومي» التركي. وفي العموم، ليست وقائع اليوم والأمس القريب إلا حصيلة تراث طويل انطوى على ثلاثة انقلابات عسكرية، أعقبتها في كل مرّة تعديلات دستورية كانت تقوّي حجم التدخل العسكري وموقع الجيش في الحياة السياسية والمدنية.
وهنالك أسباب عديدة، تاريخية واجتماعية وثقافية، تقف وراء إصرار الجيش على وضع سلطاته فوق المجتمع والدستور واللعبة الديمقراطية. أهمّ هذه الأسباب أنّ الكمالية، التي أسسها أتاتورك كإيديولوجية رسمية ثمّ طوّرها عبر سلسلة مؤتمرات لـ "الحزب الجمهوري الشعبي" بين عام 1927 و1935، تسند إلى العسكر مهمة «الحارس» على الأمن الإيديولوجي للأمّة التركية، بوصفه هذا الطراز المحدّد من الأمن واحداً من أبرز الفروع الأساسية للأمن القومي العام. ورغم أنّ الكمالية تحظى بإجماع شعبي واسع نسبياً، فإنّ الشرائح العسكرية هي وحدها التي حوّلت المبادىء الكمالية بخصوص العلمانية والأمة ـ الدولة والديمقراطية الغربية، إلى ما يشبه العقيدة المطلقة الكاملة المقدّسة التي تُعبد وتُحفظ دون مسّ، حتى بقصد التعديل أو التطوير أو التحديث.
كذلك يعود تصوّر الجيش عن نفسه بأنه فوق الأمّة إلى حقيقة ضعف الروابط بين المجتمع والشرائح العسكرية العليا، إستناداً إلى التقاليد القديمة التي اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية في تشكيل الفصائل الإنكشارية، والمعايير التي اعتُمدت في التجنيد واختيار الضباط. ورغم ما يقال أحياناً من أنّ الجيش يدافع عن مصالح الطبقة الوسطى، وبالتالي عن اقتصاد السوق الرأسمالي من خلال دمج رموز الجيش العليا في النظام الاقتصادي القائم، فإن التوازي الأساسي يقوم بين تحالف الجيش مع البيروقراطية المدنية من جهة، والنخب السياسية والتكنوقراطية من جهة ثانية.
ومنذ الثمانينيات، ونتيجة العجز المدني عن حلّ الأزمات البنيوية ووقف تصاعد العنف عن طريق قوانين الطوارىء، توطدت مواقع الجيش أكثر فأكثر، وفشلت النخب السياسية ـ المحافظة مثل تلك الليبرالية ـ في وضع حدّ لنطاق التدخل العسكري في الحياة المدنية. ويتمثل ذلك في «مجلس الأمن القومي» بصفة خاصة، الذي أنشيء عام 1961 ليعطي الجيش فرصة إبداء الرأي في بعض المسائل الإيديولوجية والتربوية، ولكنّ التعديل الدستوري لعام 1973 منح المجلس حقّ تقديم الـ«توصيات» للحكومة المدنية. وأما في التعديل الدستوري لعام 1982 فقد اكتسبت هذه التوصيات صفة «الأولوية» على جدول أعمال مجلس الوزراء، وفي الآن ذاته ازداد عدد الأعضاء العسكريين في المجلس على حساب الأعضاء المدنيين.
واليوم تشمل صلاحيات مجلس الأمن القومي إبداء التوصيات ذات الأولوية، في المسائل الحساسة التالية: تحديد المناهج التربوية للمدارس، تنظيم أقنية التلفزة والإذاعة والإشراف عليها، رفع الحصانة البرلمانية عن الأعضاء الأكراد، التدخل في التعيينات الإدارية لموظفي الدرجة الأولى في مناطق الشمال التركي، تمديد فترات الخدمة الإلزامية لفئات معينة من المواطنين، اقتراح صياغات للتحالفات البرلمانية إثر كل انتخابات تشريعية، تحديد جوهر مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب قبل تقديمها إلى البرلمان، تحديد النظام الداخلي والمناهج التربوية للمدارس الإسلامية الخاصة، وتحديد حجم ونطاق الساعات المخصصة لتدريس اللغة العربية كلغة ثانية في المدارس...
وهكذا، بعد دعوة الحزب الحاكم إلى انتخابات تشريعية مبكرة واتفاقه مع المعارضة على التعديل الدستوري الخاصّ بانتخاب رئيس الجمهورية عبر الاقتراع الشعبي، فإنّ من الزائف والضارّ والعجيب أن تنحصر مشكلات تركيا في حجاب السيدة أمينة أردوغان، زوجة رئيس الوزراء. الجوهري، في السياسة والحقوق كما في الاجتماع والعلمانية، هو خضوع الجميع ـ وعلى رأسهم العسكرتاريا، أوّلاً وثانياً وثالثاً ـ لذلك الشعار الذي طرحته تظاهرة المليون في إسطنبول: "لا للشريعة، لا للإنقلاب العسكري، نعم لتركيا ديمقراطية"!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ