الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت: الوجود الذي لا ننتمي إليه

بوعبيد عبد اللطيف

2007 / 6 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


استقبلت زبونة هذا الصباح في مقر عملي, كنت قد رأيتها من قبل,من عادتي أن أنسى أسماء الأشخاص الذين لا تربطني بهم صلة وطيدة, لكن لا أنسى أبدا وجوه الأفراد التي ناقشت مع أصحابها ولو لمرة واحدة فقط, أو تبادلنا كلمات معا, بعد دردشة صغيرة جدا, حول الجو الباريسي المتقلب وحملة الانتخابات وسعار المنتخبين, نقلت لي هذه الزبونة خبرا وبشكل مفاجئ, وهي تبتسم ابتسامة كئيبة, لا أنكر أنه أحدث لدي زلزالا داخليا, بأن الطبيب أخبرها أنه لم يتبقى لها من الوجود سوى أربعة أشهر بكثير, وهي للتو قادمة من عنده بعد معاينته لتحاليلها الأخيرة, امرأة في مقتبل العمر من هيئتها الخارجية تشع حيوية وحياة لو لم تتحدث لي عن حالتها لتوقعت لها عمرا مديدا. هنا بدا لي هذا الإشكال العريض الوجود والموت.
أول تجربة لي مع الموت ترجع لأيام الطفولة, أذكر ذلك اليوم جيدا كنا نتجه إلى المدرسة.. الساعة لم تتجاوز السادسة والنصف صباحا لأن الفترة الدراسية الصباحية كانت تبدأ على الساعة السابعة صباحا, مجموعة من التلاميذ كنا نعبر الشارع المؤدي إلى المدرسة أعيننا يكسوها بقايا نوم البارحة وأجسادنا لا زالت لم تفقد دفء أماكن نومها, كان أحدنا يقطع الشارع في اللحظة التي كانت سيارة تابعة لإحدى مؤسسات الدولة, تمر بسرعة مجنونة لم تسمح لنا برؤية الاصطدام الرهيب الذي سقط على إثره زميلنا على بعد أمتار منا, انتبهنا جميعا لبركة الدماء التي كان يعوم فيها جسده الصغير الذي ظل ينتفض لمدة دقائق ورأسه التي تهشمت و تطايرت أشلائها حتى ناصية الطريق, لم نستوعب الحدث إلا بعد مدة طويلة , ولم نعي أنه قبل لحظات فقط كان يعبر الشارع معنا وبعد دقائق وقبل وصول سيارة الإسعاف التي تأخرت لم يعد بيننا, وبين لحظة الحياة ولحظة الموت كان الانتقال وكان جثة هامدة. لماذا نموت؟ وأنا هنا أقصد الموت الفيزيقي. سؤال صعب جدا والإجابة عنه تستدعي إمكانات واحتمالات ومنافذ عدة, ترتبط بكل حالة موت خاصة, نموت لأن إرادة الحياة تنهزم أمام إرادة الموت فينا, لأن الموت مشفر في جيناتنا.(في حالة المرض أو الشيخوخة), نموت لأن عوامل خارجية تكسر ذلك الإيقاع البيولوجي فجأة الذي يكونه جسدنا( حادثة سير مثلا), نموت لأن الموت نتيجة حتمية للحياة بل الموت هو الحياة نفسها, لن نستطيع الإجابة عن هذا السؤال, لماذا نموت؟ مادمنا لا نعرف حدود إرادتنا في الموت ودرجة تغييب هذه الإرادة وحضورها في الموت, و هل الموت إرادة فعلا أم نحن مجبورين عليه؟, وهل هذا الصراع من أجل إنعاش الحياة من خلال التطور الطبي, واه وغير ذي قوة أمام إنعاش الموت من خلال التطور الصناعي والحربي؟ أم أننا نموت من أجل الموت نفسه لكي نعطي قيمة دفينة لهذه الحياة. تساءلت في لحظة ماذا لو كنت أنا السيدة التي رمت في وجهي بالخبر الزلزال, في لحظة حوار مغيب فيه الموت تماما. ماذا لو كنت هي؟ ورغم وعيي التام بموتي في كل لحظة لكن أن يصبح هذا الموت مؤكدا أي يلغي جميع المشاريع الذاتية المستقبلية ويجعلك بدون مستقبل هو الذي لا يمكن أن تستوعبه لذلك نغذي دائما حياتنا الحاضرة بوهم الأمل والتمني, بتغييب الموت واستبعاده خاصة على المستوى الشخصي كحادث لا يقع إلا للآخرين فقط كما حدد ذلك هايدغر,في كتابه الزمان والوجود, ولا نستحضر الموت إلا في حالات مرض شديد يصيبنا أو مرور من تجربة موت أحد الأقارب أو شخص نعرفه, لأن موته, البيولوجي ثم الرمزي ثم المادي, سيغيب عنا جسده ومشاركته لنا لحياتنا الخاصة التي قد ساهم فيها بشكل ما بنسج وجودها, فلذلك لا ندرك الموت إلا بسبب الغياب وليس بسبب الموت نفسه.
الموت هو النهاية, نهاية حياة بيولوجية خاصة لجسد خاص وتفاعله المادي في المكان , ونهاية استغلاله لفضاء مادي معين, إذا كانت الحياة تفرض وجودا نعييه بأجسادنا وعلى مستويات عدة فالموت بالنسبة لي هو ذلك الوجود الذي لا ننتمي له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي باشتباكات في جباليا | #


.. خيارات أميركا بعد حرب غزة.. قوة متعددة الجنسيات أو فريق حفظ




.. محاكمة ترامب تدخل مرحلةً جديدة.. هل تؤثر هذه المحاكمة على حم


.. إسرائيل تدرس مقترحا أميركيا بنقل السلطة في غزة من حماس |#غر




.. لحظة قصف إسرائيلي استهدف مخيم جنين