الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علم الكلام:مشكلة التوسط بينالمتعاليوالعالم المحسوس

محمد سيد رصاص

2007 / 6 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لايمكن الفصل بين الإشكاليات المعرفية التي دار حولها (علم الكلام) وبين الانقسام السياسي الذي أصاب المسلمين في معركة صفين,بل يمكن القول بأن الكثير من تلك الاشكاليات قد كانت جواباً على السؤال الذي طرحه الخوارج:"من هو المؤمن؟",الذين أرادوا من خلاله تكفير طرفي الصراع.
هنا,قدم (شيعة آل البيت)جوابهم الخاص على ذلك السؤال,فيما قام مبدأ( أهل السنَة والجماعة)على ارجاء الحكم والإمساك عنه,وترك ذلك لله,مع ميل إلى عدم تكفير أحد وإنما إلى وضع الجميع تحت مظلة الاسلام.
يلفت النظر ,هنا,أن تأسيس علم الكلام,بالمعنى المعرفي,قد انبنى على (الإرجاء) الذي يقول أبو البقاء الكفوي في كتابه "الكليات" بأن أصحابه هم"في تعريف المتكلمين يسمون المُجبِرة,وفي التعارف الشرعي المرجئة"/ج2,ص173,وزارة الثقافة,دمشق1982-.
كان واضع بذرة علم الكلام,أي جهم بن صفوان(ت128ه),تلميذاً للخارجي المعتدل عبد الله بن أباض(ت86ه) الذي قال,بالتضاد مع الأزارقة الخوارج الذين قالوا بتكفير المسلمين الآخرين,بأن استطاعة وفعل الانسان كلاهما مخلوقان من الله وفق تقدير مسبق وضمن وجهة محددة ومسار معين,وأن الانسان لايملك من إرادته شيئاً ,بخلاف قول الأزارقة الذين انبنى تكفيرهم للمسلمين الآخرين على قولهم بحرية الإرادة,وهذا ماجعل (ابن أباض) ينحو إلى اعتبار مرتكب "الكبيرة" غير مشرك,بل كافر نعمة.

على طريق (ابن أباض), طرح ( جهم ) نظريته في خلق الله ﻠ ( الفعل ) الإنساني ، بخيره و شره ، بوصفه جوابا على التكفير الخارجي . و هذا ما أدى به إلى نفي حرية الإنسان الذي هو ليس مسؤولاً عن أفعاله ، حيث أن الخير و الشر هما مقدران من الله ، و لا دخل للعبد في تقريرهما .
و الملفت للنظر هو نفيه لصفات الله ، و اعتباره غير قابل للإدراك و التصور الإنساني الذي لا يمكن أن يحيط به ,الشيء الذي جعله ينفي تشبيهه أو تجسيمه ، رغم وجود كثير من الآيات القرآنية التي تمارس ذلك ، حيث نراه يرفض (( خلّة )) ابراهيم و (( تكليم )) موسى ، و كذلك إمكانية (( رؤية )) الله في الآخرة .

إننا إذا ما نظرنا إلى هذه المحاولة الفكرية ، في ضوء ما آل إليه الوضع بين (( المُنزهين )) المعتزلة في صراعهم مع الجبريين الأشاعرة الذين أكدوا (( الصفات )), فلن نفهم أسس تفكير ( جهم ) و دوافعه العميقة ، و سنتهمه بالتناقض الذاتي .
فهو يريد تحقيق أمرين : التبرئة الإنسانية و التنائي الإلهي.و ربما كان ثمن الأول هو حصول الثاني كأمر لا مفر منه في هذه المنظومة الفكرية التي يُسيرها الألم و الحتمية .
فتصور(جهم) للنظام الكوني ، المحكوم بالحتمية ، هو الذي يفسر عقلانيته ، و لكن تلك العقلانية التي لا تستطيع شيئا سوى المعرفة و فهم آلية و نواظم الكون ، لا تغييره . لهذا كان (الإيمان ) عنده هو (المعرفة) ، و لا يحدده و لا ينقص أو يزيد العمل منه .
و هنا ، نجد أن تنائي الذات الإلهية سيؤدي إلى الفصل بينها و بين وسائطها ( = الكلمة ) التي تقدمها للإنسان . حيث نجد أن نظرية جهم حول ( خلق الفعل ) قد أدت به إلى القول ب ( خلق القرآن ),الذي كان أول من قال به (ابن أباض) في تاريخ الاسلام . مما يعني أن تلك الوسائط ليست من الذات و إنما تعبيرا عنها . و هذا تأكيد لتباعد الذات الإلهية عن الأرض ، لا اقتراباً منها ، و لذلك لم يكن مستغربا ، في النهاية ، أن يقول أصحاب تلك النظرية ، كما نرى عند بعض المعتزلة ، إن نظم القرآن ليس بمعجز [ أبو موسى المردار ( ت 226 ﻫ ) و إبراهيم النظَام ( 160 – 231 ﻫ ) ] .

و لكن مشكلة إضافة الشر إلى الله ، هي التي جعلت غيلان الدمشقي (( ت عام 111 ﻫ )) ، يقرر مساحة معينة من حرية الإرادة للإنسان ,و هذا ما جعله مفترقا عن ( جهم ) صاحب ( الجبرية الخالصة ) ، الشيء الذي تابعه تلميذغيلان,أي واصل بن عطاء(80-131 ﻫ ) مؤسس مذهب المعتزلة ، الذي أراد استخدام تلك المساحة لتأكيد نظريته حول ( تفسيق ) أحد الطرفين في ( الجمل) و ( صفين ) .
لذلك كانت مشكلة ( التنزيه ) عند واصل ، مختلفة عما كانت عليه عند جهم . فهنا هي ناتجة عن نظريته حول امتناع إضافة الشر إلى الله ، و إتيانه من قبل الإنسان ، المالك و المفوض بالإختيار بين الشر و الخير ، حيث أن الأخير هو مقدر تحديدا من الله . و هذا ما يفسر إصرار المعتزلة على لقب ( أهل العدل و التوحيد ) نظرا لقولهم ( بالإمتناع ) ، و ( التنزيه ) عن الصفات و تأكيدهم على ذات الله الوحدانية .
ﻔـ ( تنزيه ) واصل هدفه هو تأكيد الجانب الشرير في الإنسان ، و تعالي الله عن هذا المحيط" الدنس "، و تنائيه ، و تنزهه عنه . من هنا ، يجب أن نفهم أساس تبنيه لنظرية ( خلق القرآن ) ، حيث لا يمكن لتلك ( الذات المتعالية ) أن ترسل جزءا من ذاتها إلى ذلك المحيط , و لكن يمكن أن تبعث بتعبير عنها ، هو ( الكلمة ) التي هي مخلوقة شأنها شأن المرسلة إليهم .
ألا يذكرنا ذلك بالمانوية ؟؟!!!...
رغم (( رسالة الرد على الزنادقة )) التي وضعها واصل ضد المانوية ، إلا أننا نجده يقيم ثنائية بين (( المتعالي )) الذي هو الخير في ذاته ، وبين الإنسان الذي يأتي الشر منه .صحيح أنه مريد و مختار و عقله مفوض و مالك القدرة على التمييز بين الخير و الشر, إلا أن مذهب ( واصل بن عطاء ) و نظريته في ( تفسيق ) صاحب الكبيرة إلى درجة أنه يخرجه من محيط الإيمان و لو ليس إلى درجة وضعه في الكفر ، توحي ، و لو ضمنا ، بأن هذا العقل ,عندما ينزع إلى الشر ، فهذا تعبير عن الطبيعة البشرية ، و الله هو خارج الدائرة ، هنا . كما نجد أن نظريته حول ( خلق القرآن ) لا تختلف عن مفهوم الأفلاطونية الحديثة و المانوية ﻠ (الإله الخالق –الصانع ) الذي خلقه ( المتعالي ) كوسيط و مدبِر للعالم الحسي ، كي لا يتلوث به من خلال الاحتكاك معه ، حيث نرى ابتداء من(فيلون الإسكندراني-20ق.م-50م-) ، ميلا إلى جعل ( الكلمة ) هي ذاك ( الإله الخالق – الصانع ) ، و التي تتوسط ( المتعالي ) و ( العالم الحسي ) .

إلاأن مفهوم المعتزلة عن ( الله ) يؤدي ، من خلال تنزيهه عن ( الصفات ) ، إلى تعطيل فعاليته ، و إلى تحويله إلى(إله سلبي ) , الأمر الذي نراه عند المانوية في مفهومها حول ( المتعالي ) ,وهذا ماأدى بالتنزيه لأن يقود بعض المعتزلة للوصول إلى شكل ( الإله السلبي ) كما عند ( معمر بن عباد السلمي ) [ ت 220 ﻫ ] ,الذي اقترب من الشيعة.
في هذا الإطار, يلفت النظر عدم انشغال الشيعة بمسألة ( التنزيه ) و( الصفات ) ,حيث نرىترافق مفهوم(الإمام),كتوسط , مع تنائي الله وتحوله إلى اللاموصوف : فما دامت ( الفعالية) محصورة في الإمام ، فوظيفته و طبيعته هي محور الاهتمام ، لذلك ، كان التركيز ,هنا, محصورا حول اعتباره تجسيدا و حاملا للنور الإلهي في ذاته البشرية ،كما يقول (الإمامية ) الذين مالوا إلى نظرية التنزيه المعتزلية ، أو كونه هو الله في ذاته الطبيعية المعطاة ، كما قالت ( الغُلاة ) . حيث يلاحظ ميل الأخيرين إلى تصويره في شكل إنسان ، كما يقول المغيرة بن سعيد البجلي ( قتل عام 119 ﻫ ) ، أو كما اعتبره ( بيان التميمي ) [ قتل عام 119 ﻫ ] في صورة إنسان ، و أنه يهلك كله ، إلا وجهه , الأمر الذي تابعه الإمامي ( هشام بن الحكم )-ت193ه-,وهو تلميذ الإمام جعفر الصادق ، من خلال قوله بأن الله جسد و أنه له نفس الحواس الخمسة .
لهذا كان من غير المستغرب تتلمذ المعتزلي ( النظَّام ) على ( ابن الحكم )القائل بالتجسيم, لأن الموضوع الأساسي, ليس كما يظن بعض الباحثين المعاصرين بأنه تنزيه أو صفاتية ، و إنما هو مفهوم ( التوسط ), الذي أدى بهما إلى القول ب ( قِدَم العالم ) من خلال رفضهما لنظرية ( الجزء الذي لا يتجزأ ),حيث يلاحظ بأن تعطيل ( النظَّام ) لله من خلال جعله مختصا ب ( الأمر ) فقط ، و ليس بالتدبير,قد كان مترافقاً مع ذلك . كما أن انعدام ( الفعالية ) التي أسبغها على ( الله ) هو الذي جعله يرفض ( الجزء الذي لا يتجزأ ) , و هذا منطقي ، حيث نرى خاله ( أبو الهذيل العلاّف ) [ 130 – 226 ﻫ ] قد حلَّ مشكلة ( التعطيل ) من خلال قوله ( بالجزء الذي لا يتجزأ ) : فهو ، كجزء ، من خلال انعدام امتلاكه للإمتداد ، محدود و قابل للإحاطة ، أي متناهيا ً. و بالتالي ، فالعالم مؤلف من ( ذرات ) قابلة للعد و التحديد من قبل الله ، و يفصل بينها ( الخلاء ) ، و الواصل الوحيد بينها هو ( علم الله ) و ( تقديره ) . و هذا ما أدى منطقيا ، في النهاية عند الأشاعرة المتأثرين بنظرية(العلاف) ، إلى فكرة ( الخلق المستمر ) لأعراض هذه الذرات ( = الاجسام ، أو الأجزاء ، أو الجوهر الفرد ) باعتبار أن الأعراض لا تبقى زمانين ، أي تفنى في اللحظة التالية لحال وجودها ، مما يعني بأن الله عندما يتوقف عن خلق الأعراض فهذا سيؤدي إلى انتقال ذاك ( الجوهر ) إلى العدم . و قد أوصل ذلك ، أيضا ، بالمعتزلي ( العلاّف ) إلى نفي ( قِدم العالم ) و إلى ( تناهيه ) ,إلا أنه ، و كعاقبة منطقية أيضا ، قد أدى هذا به إلى رفض فكرة ( الطبع ) و ( السببية ) و إلى نظريته في ( التجويز ) التي لا تجعل ، حتميا ، أن يؤدي تماس النار و القطن ، مثلا , إلى الإحتراق ، إذا أراد الله منع ذلك , و هذا ما أوقعه في القول ب ( الخوارق ) : الشيء الذي يفسر الإنسجام العميق بين الأشاعرة-الذين تابعوا نظرية (العلاف) حول التجويز- و التصوف فيما بعد .
يلاحظ ,هنا,بأن (التنزيه) قد قاد عملياًإلى (الثنائية) وليس إلى (التوحيد),حيث أدى إلى(التوسط),التي كانت عند المعتزلة هي (الكلمة المخلوقة),والتي قالوا بأنها (القرآن).كماأن الثنائية كانت تعني دائما ( تعالي ) الله و انعدام تدخله في العالم إلا عبر ( التوسطات ) . و هذا يعني ( التعطيل) و وجود نوع من الإستقلالية للعالم المادي و الطبيعي ، و بالتالي ، للأشياء و الموجودات ، مما يؤدي منطقيا إلى القول بأزلية هذا العالم و قِدمه ، الشيء الذي نراه عند الأفلاطونية الحديثة و المانوية و عند (إبن الحكم ) و ( النظّام ).
إلا أن هذه الثنائية تؤدي إلى جعل الكون من طابقين : المتعالي و المادة , كماهو حال (التوسط) الذي يمثله (الإمام) : فهو نور إلهي و جسم طبيعي ، لذلك فقد كان من المنطقي أن يؤدي ( توسط الكلمة ), أي القول ب ( خلق القرآن ), إلى التلاقي مع التوسط الذي يمثله ( الإمام ) ، الشيء الذي رأيناه من خلال الإقتراب التدريجي للمعتزلة من الشيعة ابتدءاً من أبي علي الجبائي ( 235 – 303 ﻫ ) و ابنه أبي هاشم ( ت 321 ﻫ ) ، حتى تتوج ذلك من خلال مزج المذهبين على يدي فقيه الشيعة ( الشيخ المفيد ) [ 338 – 410 ﻫ ] .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم عبد المجيد: يهود الإسكندرية خرجوا مجبرين في الخمسيني


.. سياسي يميني فرنسي: الإخوان ساهموا في نشر الإسلاموفوبيا في أو




.. 163-An-Nisa


.. السياسي اليميني جوردان بارديلا: سأحظر الإخوان في فرنسا إذا و




.. إبراهيم عبد المجيد: لهذا السبب شكر بن غوريون تنظيم الإخوان ف