الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرواحنا بين قيد ومقص، وتحت جلودنا رقيب

فاطمة الشيدي

2007 / 8 / 17
المجتمع المدني


يرزح الإنسان العربي تحت الكثير من الهموم والأوزار، والمحن الثقافية والاجتماعية، ثمة ما تناولته الأقلام الجريئة بالطرح والمناقشة، وثمة ماهو متغافل عنه لأسباب ليس آخرها اللاجدوى من الكتابة...
فالكائن العربي محاصر بدوائر من القضبان والسياط الاجتماعية وكأنه لا يحيا إلا في سجن واسع فقط.
إن سياقات الاختيار في مساحة الكائن العربي قليلة جداً، منذ مرحلة المهد وحتى مرحلة اللحد، والأكثر قلة هي سياقات التبرير والتعليل والإقناع لأفعال مثل (افعل / لا تفعل) دون حتى أن تعرف جدوى الفعل من خلال (لماذا ؟؟ وإلى متى ؟؟ وماذا لو لم أفعل؟؟)، كما تكاد تنعدم حالات برهنة الذاتية خاصة في مراحل الطفولة والمراهقة، مثل: (أريد أن أفعل هذا، ولا أريد أن أفعل هذا) .
كما أن مشروعا أكثر صرامة يتصدر حيواتنا الخاصة، ألا وهو مشروع المراقبة المستمرة من قبل الآخر (الخارجي ) ذلك المشروع المندرج تحت صيغة (لماذا تفعل هذا؟) وكأنما دس تحت جلودنا رقيب اجتماعي متربص بقسوة وجهل، ولا ينبغي علينا أن نخطو خطوة واحدة دون استئذانه حتى لو لم يكن له بنا شأن .
إن عالمنا العربي يتفنن كل يوم في شكله الفردي والجمعي والمؤسساتي، في تغذية أفراده ليصبحو من أجهزة الأمن والمراقبة، حتى اتخذت مصادرة الحريات أشكال متباينة، وتفنن الكائن المؤدلج اجتماعيا في ابتكار وسائله، وابتداع أدواته لتحقيق هذه اللذة الزائفة، والاستمتاع بمراقبة الآخر في كل فعل يصدر عنه.
لقد أصبحت مراقبة البشر في حيواتهم العادية في(تبضعهم، ومشيهم ، وحركتهم ، وأكلهم وشربهم) خاصية عربية، فمراقبة البشر أصبحت عرف اجتماعي عربي أخذ مصداقيته من المجتمع، لإقامة دعاوي تقييمية أخلاقية على تصرفات الناس المحكومة بمنطق الحرية الذاتية، وإخضاع هذه التصرفات للمنطق الجمعي، فلا بد من الحصول على تأشيرات اجتماعية للدخول والخروج، ولابد من وحدة شكلية نمطية خارجية، حتى تكون في مأمن من الرقيب الاجتماعي، فأنت لست حر حتى في أبسط جوانبك الشكلية.
وتنداح الدوائر الحياتية المراقبة لتشمل البيت، والشارع، والعمل والسوق وكل مكان تذهب إليه، فليس لك الحق حتى في نوعية اللباس والحركة، أو في الصمت، أوالراحة، أو الإبداع، أو في مغايرة الأشكال السائدة، والذي تستمد قدسيتها من المألوف، ولو كانت في أقصى درجات التخلف والجهل ، ولا يحق لهذا الكائن أن يبدع أو يحيا إلا ضمن دوائر الكذب والتزييف التي أصبحت من مميزات الكائن العربي .
لذا لاغرابة أن تسود الأطر والبراويز الثابتة، وترتفع الشعارات الفارغة في مجتمعاتنا، وأن تبق العقول العربية أسيرة اللسن والحناجر، ولا غرابة أكثر أن يتفنن هذا الكائن المحاصر بتغيير هذه النمطية للنقيض تماما حتى التشويه، فور ما يطلق الرقيب هدنته في حالات كالسفر مثلا ( فكل ممنوع مرغوب )، وفي كل ذلك تشويه للقيم، وإذكاء لروح الكذب والتزييف والاغتراب الروحي .
وحين نتحدث عن مصادرة الحريات فلابد أن ترسو السفن في الميناء الأكثر إشكالا، وهو ميناء الكلمة والنشر والإبداع الفكري المحاصر سلفا من قبل الرقيب الاجتماعي والثقافي بعدة جدر .
ولأن بين الحرية والإبداع فاصلة منقوطة، ولأن الإبداع محاولة للتفرد من خلال رؤية وحدودية خارج الجمعية المطلقة، من ذهن حر ليبدع ( أي يأتي على غير مثال ) لذا فالإبداع العربي عاجز وكسيح.
إن آليات التجديد والمغايرة هي جزء من الفكر الإنساني القائم في تشكيلاته الحتمية على الخصوصية، فهي أهم السمات التي بثها الخالق فيه، حيث أهداه حرية التفكير والبحث في الكون كمهمة أولى فالإبداع كفعل إنساني يمثل ماهية الإنسان.
وصفة الإبداع مرهونة في إشكالياتها الأولى بفعل الإبداع الشرطي وهو الحرية، الحرية في المغايرة بأشكالها الاختلافية والائتلافية، حرية الإنسان جزء من كينونته، فإذا منعت الحرية، وجب تحديد النتائج، فتقييد المعطيات يقيّد المخرجات.
غير أن الكائن العربي في الأغلب إئتلف مع مساحاته المحددة ، وحريته الناقصة ، ونسج له خارجها حالات من الخيانة للعقل والضمير ، ليعيش ويحيا فقط خارج حالات غياب ذلك الرقيب ، ولعل الأمر عائد إلى المشاريع التربوية الأولى بمعناها اللاصفي أو اللامؤسسي، تلك المشاريع التي شكلت هذا الكائن وفق ضمير مراقب خارجيا، وبهذا نشأ الضمير العربي وفق مساحة الرقيب فقط ، وبغياب الرقيب تغيب سلطة الضمير، الذي يفترض أن تكون حاضرة كأداة خاصة لتقييم الأفعال الإنسانية في مختلف الأوقات والأعمال، والأدهى أن يتحول الضمير شعارياً يغني بما لا يفعل ويغلّب التنظير على الفعل .
كيف لا وسلطة الرقيب تحاصر هذا الضمير على مختلف الأصعدة والمشاريع حتى تم تعطيله، وتتعدد من مرحلة المهد مثل : الأم – الأب – المجتمع – المدرسة – المعلم – الشرطة -الامتحان – دفتر توقيع الحضور والانصراف ... الخ .
وغياب أحد هذه الوسائط الرقابية، يعني بالضرورة تفلت فعل الوجوب إلى اللاوجوب، لأن المعايير غير صحيحة وغير واضحة، ومبادئ الخير والحق والجمال مشوهة، لدى الفرد العربي، ومقاييس الصح والخطأ غير مرجعية بالشكل التي لا تحتاج إلى سلطة الرقيب.
إن دور الرقيب الذي كان يفترض أن يوسع دائرة الضمير عمل على تضييقها، وتشويه معالمها، وجعلها محكومة بشمس الرقيب، وتحيّن حقيقي لغيابه لفعل المرغوب بحكم المنعية .
إن إطلاق مساحات الحرية للفرد سيعيد تشكيل بناء الضمير الإنساني العربي ليقوم على مبدأ المراقبة الذاتية، ضمن قاعدة قيمية حقيقية مستندة إلى وضوح المقاييس والمعايير للفضيلة والرذيلة، ولما ينبغي وما لا ينبغي، لا على سلطة رقيب ، وهذا هو الأجدى والأجدر في صوغ الضمير الأممي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو


.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين




.. السودان.. طوابير من النازحين في انتظار المساعدات بولاية القض


.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب للمطالبة بعقد صفقة تبا




.. مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع لدراسة رد حماس على مقترح صفقة تب