الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معركة أورمار

بولات جان

2007 / 10 / 29
القضية الكردية


كنتُ هناك... أترقب البداية و قد توقف المطر منذ لحظات و الضباب بدأ ينقشع و ينزل نحو الوديان السحيقة للتو. كان البرد قارصاً و الرياح الجبلية القادمة من القمم الثلجية تهب علينا من كل حدبٍ و صوب... و نحنُ نترقب القمة المواجهة لنا تماماً. الانتظار، كان المحيط يلفنا بالصمت القاتل و نحنُ ننتظر بداية الحدث، إنها أكثر اللحظات العصيبة في مثل هذه الظروف، أقصد الانتظار. كانت عقارب الساعة تسير على مهلٍ نحو منتصف الليل، و الهلال يترقب مثلنا تماماً ساعة الصفر...
في الدقيقة الخامسة من الساعة الثانية عشر ليلة عشرين من تشرين الأول في القمم الثلجية الباردة في جبل (جيلو) ضمن سلسلة جبال زاغروس، في تلك الدقيقة العصيبة ارتفعت طلقة مدفعية مضادة للطائرات نحو السماء راسمة خلفها خطاً نارياً أحمراً. و ما أن تراءت تلك الطلقة حتى تبعتها المئات من الطلقات من مدفعيات(الدوشكا) و قذائف الهاون على المراصد و القمم التي كان الجيش التركي قد تعسكر فيها ضمن مخططه في غزو جنوب كردستان(شمال العراق). كانت الطلقات تنهمر كالمطر المدرار على الجيش التركي الغازي، فردّ عليه الجيش بالمثل، فراحت الطلقات تتقاطع في السماء و قذائف الهاون تنفجر هنا و هناك و أصوات الرصاص تلعلع في القمم و القنابل تنفجر بين الصخور و خنادق الجيش التركي. و كان هنالك الصراخ... صراخ الألم و صراخ الموت و صراخ الحماسة و التشجيع...
تحول المحيط العاتم إلى بحر من النجوم الفولاذية و القذائف النارية التي خرقت جدران الصمت و أقشعت الغيوم السابحة تحت القمم. كانت الأوحال قد غطت كل المنطقة بُعيد الأمطار الغزيرة التي تساقطت طوال اليوم، و كانت الثلوج قد غطت القمم العالية في جبل (جيلو) و (چارچيلا) و (گارا). انطلاقة المعركة كانت سريعة الوتيرة و مجرياتها كانت حامية الوطيس، حيث دبت الحماسة و الدفء في أجساد المقاتلين المتجمدة؛ فراحوا يتهجمون بكل ما أوتوا من خفة و عنفوان على خنادق العدو، خلال دقائق معدودات و إثر الضربات السريعة من المدفعية و الرشاشات الفردية و القنابل اليدوية كان المقاتلين الأنصار قد احتلوا خنادق العدو الذي فرّ من بقي حياً إلى المعسكر القريب. المعركة الأولى كانت خاطفة و سريعة و قاصمة و قد قصمت ظهر الجيش التركي خلال لحظات.
قبل أن تبدأ المعركة بلحظات كانت مجموعة من المقاتلين الأنصار جاهزة بالقرب من الجسر الرئيسي الواصل بين معسكرات الجيش التركي و مراصده و المخافر الأخرى، و لأجل قطع الإمدادات البرية عن المعسكر و المراصد فقد تم تلغيم الجسر بلغم كبير جداً تم تفجيره بلحظات قبل بدأ المعركة. الانفجار الكبير أدى إلى انهيار الجسر تماماً و أنقطع الطريق من و إلى المعسكر و بذلك أطمئن الثوار إلى عدم وصول أية إمدادات برية مباشرة إلى ساحة المعركة.
الحصيلة الأولى و المؤكدة كانت، أكثر من ثلاثين قتيل من قِبل الجيش التركي، و أكثر من خمسة عشر جريحاً و ثمانية أسرى و الكثير من الغنائم العسكرية من الرشاشات الفردية و الذخيرة و المناظير الليلة المتطورة جداً و الماسحات الليزرية للمنطقة و المدافع المضادة للطائرات و مدافع الهاون...
المعركة كانت لصالح المقاتلين الثوار من حزب العمال الكردستاني و قد تلقى الجيش التركي ضربة أليمة جداً. المعركة الأرضية أنتهت بسقوط جميع الخنادق و المراصد و نقاط التمركز التابعة للجيش التركي في يد الثوار الكردستانيين، ففي الساعة الثالثة إلا عشر دقائق بدأت أصوات المروحيات الحربية التركية بالاقتراب من مناطق المعركة. طياري هذه المروحيات الحربية المسماة بـ (كوبرا) كانوا قد تلقوا تدريباتهم في اسرائيل للقتال ضد حزب العمال الكردستاني مستفيدين من حرب اسرائيل ضد الثوار الفلسطينيين. نستطيع القول بأن هذه المروحيات كانت ترجح كفة المعارك السابقة لصالح الجيش التركي، و لكن هذه المرة كان الامر مختلفاً جداً. فهذه المرة الأولى التي يجلب فيها الثوار الكرد أكثر من أثني عشرة مدفعية مضادة للطائرات من نوع (دوشكا) و التي كانت موزعة على شكل هلال مزدوج على قمم جبال زاغروس. فما أن دخلت المروحية في المنطقة و بدأت في الهجوم على القمم التي أحتلها الثوار الكردستانيين قبل ساعتين و في المناطق التي قد يتواجد فيها قيادات المعركة، حتى بدأت مدافع الثوار الكرد بإطلاق نيرانها على المروحيات التي لم تجد أية جهة يمكنها فيها من المناورة و مباغتة الثوار. فقد كانت الطلقات تنهمر عليها من كل حدبٍ و صوب، فكلما كانت المروحيات تعيد الكرة في الهجوم الجوي على أماكن الثوار الكردستانيين حتى كانت المدفعية تعيدها على أعقابها خائبة تسحب ذيل الهزيمة ورائها. فقد كانت العديد من المروحيات قد تلقت ضربات المدفعية الخفيفة و أنجرح فيها عدد من الجنود بحسب الإعلام التركي.
استمرت المعركة حتى ساعات الصباح، حيث تخلت المروحيات التركية عن محاولاتها الفاشلة في إلحاق الهزيمة بالثوار الكردستانيين، فبدأت على أثرها الدبابات التركية بالقصف العشوائي على كل المنطقة المحيطة حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، أي الحادي والعشرين من تشرين الأول. كل هذه المعارك التي أسفرت عن خسائر فادحة للجيش التركي، لم تسفر عن أية خسائر تذكر من قِبل الثوار الكردستانيين. حيث لم يستشهد أي ثوري كردي و لم يتزحزحوا عن أماكنهم قيد أنملة.
جثث القتلى الجيش التركي بقت تحت سيطرة الثوار حتى ساعات المساء و قد باءت جميع محاولات الجيش التركي في استعادة الجثث بالفشل. و في ساعات المساء بدأت الطائرات الحربية من طراز(ف 16) بالتحليق فوق جبال زاغروس و إلقاء الأطنان من القنابل التي تزن أكثر من طن بشكلٍ عشوائي على المنطقة دون أن تسفر أن أي ضرر للثوار المستحكمين في أكثر المخابئ أماناً. كما حاولت هذه الطائرات استفزاز مدفعيات الثوار لكي تكشف مكانها و تتعرض لهجومها. لكن الأوامر كانت واضحة: " لا تطلقوا على الطائرات و لا تكشفوا مواقعكم!". بالكاد استطاعت المروحيات التركية من نقل الجثث بعد أكثر من اربع و عشرين ساعة من بداية المعركة.
أما الإعلام التركي فقد كان قد جنّ جنونه و راح يقصف الجماهير بالأكاذيب و الأخبار المزورة، من قبيل بأنه ليس هنالك أسرى أتراك لدى الثوار الكردستانيين، و كذلك فقد أخفوا العدد الحقيقي للجنود القتلى في المعركة و كذلك فقد نشروا أنباء كاذبة عن استشهاد أكثر من ثلاثين ثورياًَ كردستانياً. مع العلم أنه لم يكن هنالك أي شهيد من الجانب الكردي، و قد أعترف الجنود الأتراك الأسرى بأن قتلى الأتراك كانوا أكثر من ثلاثين جندياً.
عسكرياً كانت هذه المعركة نصراً حاسماً للثوار الكردستانيين من حزب العمال الكردستاني. و سياسياً فقد غيرت هذه المعركة جدول أعمال الرأي العام في تركيا و انعكست بشكل كبير جداً على الرأي العام الدولي و الكردستاني. ففي حين كان الجيش و الحكومة التركية تتشدقان بالتهديدات ضد الشعب الكردستاني و جنوب كردستان و تتوعد بالقضاء النهائي على حزب العمال الكردستاني، في هذا الوقت بالذات تلقى هذا الجيش لهذه الهزيمة قد مرغت أنفه في الوحل و أظهرته على حقيقته. فليس كل هذه التهديدات و الوعيد و عرض القوى ليس إلا تمويهاً لجبنها و ضعفها و هشاشتها.
فلم يعد الحديث في تركيا حول كيف سيغزون جنوب كردستان و كيف سيحتلون مدنها و يقتلون ثوارها، و كيف سيفعلون كذا و كذا، بل بات الحديث في الشارع التركي حول هذه الهزيمة التي مُني بها الجيش التركي، و قضية الأسرى الثمانية الذي استسلموا لقوات الدفاع الشعبي التابعة لحزب العمال الكردستاني. فمعركة أورمار قد غيرت الكثير من الحسابات و قلبت الموازيين رأساً على عقب.
فمن جانب راحت التظاهرات العظيمة في كل المدن الكردستانية وخاصة في جنوب كردستان تندد بأي غزوٍ تركيٍ محتمل للجيش التركي في جنوب كردستان، هذه التظاهرات الجماهيرية قد أظهرت اللحمة الوطنية بين الجماهير الكردستانية و قياداتها الثورية و حزب العمال الكردستاني و بين كافة أجزاء كردستان و كذلك كانت أكبر برهان بأن الشعب الكردي لم يعد ورقة يستخدمها الدول متى شاءت و لم يعد الأكراد جنوداً للغير يتقاتلون فيما بينهم لأجل مصالح الآخرين. كل الأكراد رفضوا الاقتتال الداخلي نهائياً و رفضوا الرضوخ للتهديدات التركية الفارغة. و جاءت معركة أورمار كتتويج لهذا الموقف الكردستاني المناهض لأي تدخلٍ تركي في المسائل الكردستانية.
معركة أورمار أثبتت للجيش التركي بأن ثوار حزب العمال الكردستاني يملكون القوة الحقيقية للدفاع عن مكتسبات وطنهم و صون شعبهم تحت كل الظروف. هذه المعركة و بحسب توقيتها أثبتت للعالم بأن دخول الجيش التركي إلى كردستان العراق لن يكون بهذه السهولة التي يظنها البعض، بل سيكون هنالك مقاومة عسكرية و حرب أنصارية عظيمة من قبل حزب العمال الكردستاني ضد العجرفة التركية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحرك بالكنيست لمصادرة أموال وممتلكات -الأونروا- في إسرائيل و


.. ألمانيا.. اعتداء على متضامن مع فلسطين من ذوي الاحتياجات الخا




.. الكنيست يصادق على مشروع قانون يحظر عمل الأونروا في غزة والضف


.. كورنيش بيروت يتحول من مكان للتنزه إلى ملجأ لخيام النازحين




.. مصطفى البرغوثي: 7 أكتوبر لم يكن سببا بل نتيجة للاحتلال وللتط