الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألحزن الكبير ...

حامد حمودي عباس

2011 / 1 / 17
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


المدينة كانت تحمل بين جنباتها هموم حر شهر تموز ، وتثقلها التداعيات المحمولة لها من خطوط الجبهه .. فكل شيء كان في مدينة كربلاء ، يوحي بالموت .. البقالون واصحاب المطاعم والفنادق ، وحتى اولئك الذين يشحذون ارزاقهم على ارصفة الشوارع .. كانوا جميعا يرهنون آمالهم المتخفية وراء شعورهم بالخوف ، في ان يحمل لهم صيف العراق الساخن ، اخبارا توحي لهم بعلامات الاستشهاد ..
الشوارع ذابت فيها ، وعلى مدى التواءاتها القلقه ، صفائح الاسفلت ، وهي تتبخر لتلهب اجساد البشر ، وهم مسرعين بين من يسعى لعمل ، او متشرد لا يعرف لمصيره من نهاية معلومه ، وبين من جاء مسافرا ليرمي بشكواه الى ضريح الامام الحسين ، عله ينصفه عند الله في تحقيق المراد ..
بين حين واخر .. كانت تسير هناك غير بعيد ، مجاميع من المشيعين ، تدل قلتهم بانهم قد وفدوا من المحافظات الاخرى .. وهم يحملون الوان العلم العراقي ، يجثم تحتها شهيد اكلت جسده الحرب ، ليدفنوه على عجل .. فالطرق اصبحت غير آمنه عندما يجن الليل ، ولابد من العودة بسرعه .. ليس من الضروري اظهار احاسيس الاسف على الشهيد ، لتطوي زمنا قد يفصل بين المشيعين واستغلال ساعات النهار للعوده ، انه استشعار بالخطر .. من يدري ؟ .. قد لا يكون قطاع الطرق هم العقبه ، وانما زمر الحكومة ، ممن ينتظرون حصولهم على قود لنار الموت ، قد يظهرون على حين غرة في منعطف ما ، وحينها سيكون هناك شهداء اخرون ..
لقد تعودت المدينة على عزف بعينه لآلات تنطق بالنواح .. والنواح فقط .. بل ان اي عزف من نوع اخر لا يوحي بالنواح ، سيكون وقعه على الاذان مخدشا .. مشيعون .. توابيت مغطاة بالوان العلم الرسمي .. جموع تفد واخرى تغادر ، والجميع تحت وطأة حزن مكثف ، لا يشغلهم غير الاسراع باستغلال الزمن باقصى ما يمكن من الحرص ..
ومع اول رشفة من قدح للشاي ، كنت قد دفعت ثمنه مقدما للبائع المحتضن لعربته الجواله .. صكت اذني صرخة لم تكن من ضمن العزف المعتاد ، انها من لون اخر .. ومع انني عرفت مسبقا مصدرها وسبب انطلاقها في فضاء المكان .. الا انني ، وبشكل مفاجيء ، خانتي قدرتي على ريادة اعصاب كفي الحاملة للقدح من الاحتفاظ به متوازنا ، فخر من يدي على ارض الرصيف متهشما كروحي الممزقه .. لقد كانت امرأة في منتصف العمر .. شعرها تمتد اطرافه الى السماء ، منثور على غير انتظام .. وصدرها مكشوف بالكامل ، تهتز اثداؤها بعنف مع حركة جسدها لتعلن الثورة على الحرام والتقاليد وارباب الدين ومشاعر الحياء .. كانت تهتف بصوت جهوري لم استطع معرفة تفاصيل كلماته .. جفت مجاري الحلقوم لدي ، وبدأت اشعر بحاجتي للجلوس على حافة الرصيف .. مرت لحظات رهيبة قبل ان اشخص الوان العلم العدوانية ، وهي تغطي جسدا تحمله الاكف ، لأفهم بان شهيدا وفد الى المدينة من معاقل الموت .
لم تنقطع الوان العلم الباهتة من التواجد وباستمرار في شوارع وازقة المدينه .. ولم يميز تلكم الصور الاسطورية غير المشاركين في تأدية مراسيمها .. هذه الجنازة لا توحي بالعبره .. والعبرة هنا في لهجة العراقيين هي الدمعه .. في حين تلك الجنازة محاطة بهيبة العزاء .. هكذا كان الناس يقسمون توابيت الموت المارة على اساس ما يحيطها من تعابير تعكس درجات الحزن .
المرأة نصف العاريه بدأت تصلني منها عندما اصبحت قريبة مني ، انصاف كلمات لم تدخل حدود فهمي لها عدا عن انني عرفت بانها ام للشهيد .. ( يمه محمد .. ) وما عداها لم يكن غير دفقات من حشرجة تخرج كالهتاف ، يدفع امامه جميع موجات الهواء الساخن ، ليلقي بها في وجوه ازلام السلطة المنزوين وراء اعمدة الشارع .. وهم يتطاولون على حرمة دماء ابناء وطنهم بكل شراسة وحوش الغاب .
النعش كان يرقص بسبب عدم توازن الايدي الساندة له .. وأم محمد تتقدم الركب عارية الصدر .. تناطح الفضاء المحيط بما تبقى في روحها من مشاعر الامومه .. كنت اشعر بقوة خارقة تدفعني للاندفاع الى حيث تقفز في مكانها ، وهي تدور حول نفسها بعنف ، وكانها راغبة في ايصال هتافاتها الى ابعد مدى ممكن .. لأمسك بها حتى يستقر جسدها المحتقن بالعذاب .. حيث كنت احس بان ذلك النبض الانثوي المقدس ، من المحتمل ان يتوقف في اية لحظه .. غير بعيد عني لمحت احد العاملين معي في نفس الدائره ، وهو يهتز منتحبا بكل قوته .. قد تكون الصدفة هي التي ساقته الى حيث اكون ، انه ابو يوسف .. الحارس الطيب .. أنا على يقين بانه الان ، لم يكن منساقا في نحيبه مع آلام تلك المفجوعه فحسب .. فقد ذهب ابنه يوسف قبل شهرين شهيدا في نهر الكارون ، حينما انتقمت فرق الاعدام من الفارين من تحرير مدينة المحمرة الايرانيه .. لم تتمكن مخيلتي حينذاك رغم كوني واحد ممن كانوا عند حافات بحيرة الاسماك داخل الاراضي الايرانية ، من تجسيد صورة الجنود العراقيين ، وهم ينسحبون انسحابا تقره قوانين لعبة الحروب ، امام زحف مكثف للقوات الايرانية وهي تدفع بالجيش العراقي خارج حدود المدينة المحتله .. ولم يكن امام المئات من الجنود العراقيين سوى عبور مياه نهر الكارون باتجاه مواقهم الخلفية عند تخوم مدينة البصره .. واحسبهم مع قياداتهم يبتغون استعادة النظام ، لتلقي الاوامر بكيفية معالجة الوضع الميداني الجديد ..
في الجانب الاخر .. وعند طاولات البغي بارواح الشعب .. صدرت التعليمات لاشباح ما كان يسمى بفرق الاعدام العسكريه .. لأن تتواجد وعلى الفور عند حافة النهر من جهة العراق ، وتمزيق اجساد الجنود والضباط المنسحبين ، فطفت تلك الاجساد ضمن ابشع مسلخة بربرية عرفها تاريخ الحروب .. فلا المحمرة عادت للقوات العراقيه .. ولا الوحدات المنسحبة وصلت الى مقراتها الخلفية لتمارس مهامها من جديد .. هناك كان يوسف .. ومن هناك استلم ابوه جثته موسومة بعلامة ( جبان ) كتب حروفها على خشبة تابوته عديم اللون ، تجار الحرب ، ومروجي شعائر الفناء .
استمر توافد مواكب المشيعين ، وهم يقطعون مسارات مختلفة ، تختفي اصواتهم تحت تأثير ضجيج محركات السيارات ، ومزاحمة اشرطة التسجيل المعبرة عن شتى انواع قراءات القرآن الكريم .. غير ان ام محمد لازالت تهتف .. ولا زالت اثداؤها تتلوى بين جنبات جسدها المحترق بنار الامومة .. وشعرها المنفوش يردد معها صرخات الاحساس بالفجيعه .
مرت سنوات الطلق للولادة المحرمه .. فكان الوليد حربا اخرى .. نزفت خلالها جروح العراق الكثير من الدماء .. ولم تزل ام محمد عارية الصدر .. تهتف بالحزن الكبير ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كم صرخة -يُمة محمد- سنسمع من تونس ؟
الحكيم البابلي ( 2011 / 1 / 18 - 07:05 )
صورة زيتية رائعة لن تغادر مُخيلتي ربما لسنوات
فقد فقدت شقيقين لا أملك غيرهما في نار سنوات العار تلك
وماتت والدتي مباشرةً هماً وغماً وكمداً بعد أن فقدت ولدها البكر ، وحسناً فعلت لأن ولدها الأصغر لحق بركب الشهداء المساكين بعد فترة قصيرة
كم أنت جيد عزيزي حامد في تصوير المآساة ، حين نرى أنفسنا وكأننا كنا هناك ، حتى أنني أستطعتُ أن أشم رائحة البارود ، وأسمع إرتطام قدح الشاي فوق أرضية الشارع ، وأرى تلك الأم المفجوعة وهي تمزق قلبها قبل ملابسها وشعرها -يُمة محمد- وكم مرة سمعنا هذه الصرخة التي تجعل فقرات الظهر والرقبة ترتجف لهول النداء
قلبي مع كل العراقيين الذين دفعوا جزية المواطنة ولا زالوا يدفعون ، وشكراً لك أخي حامد الرائع ، رغم أنك لم تُحسن توقيت نشر هذا المقال الرائع ، فالكل يرقص ويدبك لأن تونس تفتح كل بوابات صهاريج اللهب التي سبق أن فتحناها في العراق ، ومن رحيق جناتها كان هذا المقال المؤلم
تحياتي


2 - الصديق الحكيم البابلي
حامد حمودي عباس ( 2011 / 1 / 18 - 09:45 )
لقد ظهرت الفنانه المصريه محسنه توفيق ، في وسط المؤيدين للانتفاضة التونسيه ، من على شاشة الجزيره وهي تتضرع للتونسيين بقولها ( ابوس رجليكم .. لا تضيعوا ما قدمتموه من تضحيات فتسلموا الراية للمعارضة الوافده لكم من الخارج .. كونوا مجالسكم الشعبية الخاصه لتجاوز المرحله .. لا تعودوا لبيوتكم حتى تنتهوا نهائيا مما حققتموه ولغاية الاطمئنان على مستقبل حياتكم ) .. وهكذا كنت انا اهتف معها خوفا من اطلالة ذوي الياقات المنشاة والاربطة الملونه .. وخوفا من ظهور اشباح المد الديني من اصحاب اللحى والذين اعلنوا هم ايضا فزعهم على تونس من ضياع الشرف والعفة العربية .. القادم اخي طلعت هو الاهم ، ونحن في العراق ادرى بشعاب كافة الاحتمالات السيئة .. ما كتبته انا الان هو استذكار لاصول مصيبتنا نحن ، والتي على اثارها لازلنا نعيش زمن الاحتمالات السيئه .. دمت اخا وصديقا


3 - الاخ حامد حمودي عباس
مارا الصفار ( 2011 / 1 / 18 - 10:50 )
لم استطع ان اقاوم دموعي وانا اقرأ سطورك هذه
فكم من مرة كنت اقف خلف او الى جانب (امهات محمد ) التي يشق صراخهن كبد السماء
كنا نتخيل ان الله بجلالته سوف ينزل الى الارض ليبكي معنا
فصوت الامهات الذي يرتفع مع طلوع الروح لا يمكن ان يتلاشى هكذا في الفضاء
سوف ينزل ليضع حدا للالم والنار التي تلتهب بها قلوب امهاتنا
ويقلب الدنيا على من كان السبب في موت محمد واحمد وعلي وسالم ورزاق وكريم وووووو

ولكن محمد رحل
وامه رحلت
ولم يبق لنا غير ان نخبر القبور
ان من قتلهم ...... رحل هو الاخر
وجاء غيره ..... افضل منه في القتل


4 - كيف ننسى ؟
حامد حمودي عباس ( 2011 / 1 / 18 - 13:46 )
سيدتي مارا الصفار .. لا اعرف سبيلا مقنعا لأن ينسى العراقيون ما احاط بهم من محن وعلى مدى تاريخ يبدو طويلا طول الدهر .. من يصدق ياترى ، بان قوائم تعداد المواليد الخاضعة للخدمة العسكريه ابان تلك الحرب القذره ، تشير الى ان رقما من تلك المواليد قد اختفى تماما من حسابات التعداد السكاني ، كون ان صحاري القتال قد اتت على من ولدوا فيه وعن بكرة ابيهم ؟ .. سوف ابقى احوم حول ضحايا تلك المحن ، علني اجد في بلادي ، من يستجيب لدواعي السلام .. تقبلي خالص امتناني لمساهمتك الجميلة


5 - عزيزي السيد أبو رافد المحترم
ليندا كبرييل ( 2011 / 1 / 18 - 14:35 )
تفضل بقبول تهنئة متأخرة بالعام الجديد آملة أن أقرأ لك دوماً كما عهدتك ما يحرك النفوس والأفكار . ببالغ التأثر قرأت مقالك الماضي عن قطار الموت , وها أنت بعين الفنان المتميز تلتقط حادثة أخرى لتعيدها من الماضي بحضور ساطع , ( جثته موسومة بعلامة جبان ) تكاد الدموع تنفر من عيني وأنا أكرر قراءة هذه العبارة . إني لا أبكي الشهيد العراقي فحسب بل والإيراني أيضاً وكل من راحت حياته هدراً بسبب قرارات غبية حمقاء , المجد لذكراهم العطرة والخزي والعارلهؤلاء الجبناء الذين يدفعون بشبابنا إلى المحرقة وهم على كراسيهم ينعمون مع أولادهم ,( أولاد الست ) شكراً أخي حامد على هذه المقالات بورك الحس الوطني بداخلك وهنيئاً لإنسانيتك ورقيك ,


6 - هذا صحيح اخي حامد
مارا الصفار ( 2011 / 1 / 19 - 07:07 )
ما قلته صحيح تماما عن اختفاء مواليد 1957 ممن كانوا يخدمون في الجيش العراقي وقت الحرب العراقية الايرانية
وكذلك مواليد 1958 و 1959
كما قص علي زوجي : تخيل في ليلة معركة تاج المعارك / اذار 1985
وخلال ساعات بسيطة
سقط اكثر من 60 الف جندي عراقي في منطقة واحدة فقط وليس كل جبهات القتال
ولم يبق غير العشرات منهم - اقتيدوا لمعسكرات الاسر في ايران
من اجل ماذا ؟
ولاجل من ؟
وماذا جنينا غير الموت والحزن الكبير؟

ولماذا لازال ( الحوم) يدور في سمائنا باحثا عن المزيد من الجثث؟

معك من اجل السلام في وطن لم يذق طعم السلام

اخر الافلام

.. - الغاء القوانين المقيدة للحريات ... آولوية -


.. أليكسي فاسيلييف يشرح علاقة الاتحاد السوفييتي مع الدول العربي




.. تضامناً مع غزة.. اشتباكات بين الشرطة الألمانية وطلاب متظاهري


.. طلبة محتجون في نيويورك يغلقون أكبر شوارع المدينة تضامنا مع غ




.. Peace Treaties - To Your Left: Palestine | معاهدات السلام -