الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الاسبانية

أشرف عمر

2011 / 12 / 20
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



(الجزء الأول)
بقلم:
جيف بايلي
ترجمة: أشرف عمر

تم نشر المقال لأول مرة في 21 يوليو 2011، بجريدة العامل الاشتراكي الإلكترونية الأمريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة.

منذ 75 عاماً، نظم الجنرال فرانشيسكو فرانكو انقلابه العسكري ضد حكومة الجبهة الشعبية المنتخبة ديمقراطياً في اسبانيا، ذلك الانقلاب الذي دشن ثلاثة سنوات من الحرب الأهلية ضد قوات فرانكو الفاشية. وعلى الرغم من أن العمال الأسبان قد قادوا قتالاً بطولياً ضد الفاشية وضربوا مثلاً رائعاً لما تكون عليه السلطة العمالية، إلا أن الثورة العمالية قد تحطمت تحت تأثير الضربات الموجعة للفاشية من ناحية وفشل الاستراتيجية الستالينية من ناحية أخرى.

لم يكن انقلاب فرانكو يمثل نقطة بداية لنضال العمال والفلاحين الأسبان، بل كان بمثابة أعلى مرحلة وصلت إليها قوى الرجعية في مواجهة الحركة الثورية التي كانت تتطور لعدة سنوات سابقة. هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة الكاتب الاشتراكي جيف بايلي، ويتناول فيه الأحداث العاصفة لسنوات الصراع بين الثورة والردة الرجعية والتي أدت لاندلاع الحرب الأهلية الاسبانية في الفترة بين يوليو 1936 إلى أبريل 1939.

الجمهورية الثانية

في بداية القرن العشرين، كانت اسبانيا إحدى الدول الأوروبية شديدة التأخر التي يسيطر عليها حكم ملكي عتيق يقوم على دعامتين: الكنيسة الكاثوليكية وسلك ضباط الجيش الأرستوقراط. وبالرغم من المعارضة الدائمة من جانب البرجوازية الاسبانية للحكم الملكي، إلا أنها افتقدت على الدوام أي عزيمة للدخول في تحدي حاسم ضد الملك والكنيسة والإقطاعيين. وكما كتب الاشتراكي الثوري الروسي ليون تروتسكي في كلاسيكيته الشهيرة "الثورة الاسبانية"، فإن: "طوال القرن التاسع عشر، لم تتطلع البرجوازية الاسبانية للعب الدور التاريخي الذي لعبته البرجوازية الفرنسية والبريطانية من قبل. وبظهورها شديد التأخر واعتمادها على رأس المال الأجنبي، فإن البرجوازية الاسبانية، والتي تحفر في أجساد الجماهير، غير قادرة على تقديم نفسها كقائد للأمة ضد الحكم القديم ولو لفترة وجيزة".

لم تكن الملكية تحظى بتأييد من الطبقات المالكة، لذا فقد كانت تلجأ للقوة العسكرية مرة بعد أخرى لمواجهة الجماهير. في عام 1923، وصل الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى سدة الحكم في ظل ديكتاتورية عسكرية حديدية، لكن ديكتاتورية دي ريفيرا لم تستطع أن تحافظ على النظام في مواجهة موجة عارمة من النضالات الجماهيرية. فعندما بدأ الكساد الكبير في 1929، وقعت اسبانيا في براثن أزمة اقتصادية حادة ورأت الطبقة الحاكمة أنها لا تستطيع احتواء الغضب الجماهيري المتصاعد باستخدام القوة المفرطة والقمع المباشر فقط، وتم إجبار دي ريفيرا على التنحي في 1930.

هذا هو السبب وراء دعوة الملك ألفونس الثالث عشر لانتخابات ديمقراطية دشنت الجمهورية الثانية –الجمهورية الأولى كانت في 1873 واستمرت لعام واحد فقط- بعد خمس سنوات من الاضطرابات الاجتماعية الهائلة والاستقطاب السياسي الحاد بين اليمين واليسار. عُقدت الانتخابات في أبريل 1931 وجاءت بشكل كبير في صالح الأحزاب الجمهورية لتجبر الملك على التنازل عن العرش والهرب خارج البلاد. أما حكومة الجمهورية الثانية فقد تشكلت من تحالف الأحزاب الجمهورية التي عبرت عن مصالح الطبقة الوسطى، إلى جانب الجناح اليميني للحزب الاشتراكي الاسباني.

وكما اعتدنا في تاريخ الثورات، تميزت الشهور الأولى للثورة الاسبانية بحالة تموج بالوحدة والتضامن الجماهيري الواسع. كانت الاحتفالات بإعلان الجمهورية الثانية في كل القرى والمدن، تنهمر خلالها دعوات الأحزاب اليسارية للوحدة في النضال من أجل الديمقراطية. لكن خلف هذه المشاهد الصاخبة، كانت الشروخ بين قوى الجمهورية الثانية تزداد عمقاً.

الطابع الطبقي للثورة

كانت الجمهورية الثانية مقسمة بين عدد من الأحزاب الصغيرة المعبرة عن الطبقة الوسطى الاسبانية، هذه الأحزاب كانت تعارض الملكية والديكتاتورية العسكرية لكنها في الوقت نفسه كانت تدافع بضراوة عن الرأسمالية الاسبانية ومصالحها، مثل الحزب الكتالوني وحزب الباسك القوميين، هذا إلى جانب الحزب الاشتراكي الاسباني الذي كان نفسه منقسماً إلى جناح يميني منحاز للإصلاح التدريجي للرأسمالية، وجناح يساري يدعو إلى الثورة على الرأسمالية (وفي الحقيقة كان يفعل ذلك بالقول أكثر من الفعل على أرضية النضال الطبقي). وبعيداً عن القوى التي شكلت الجمهورية، كان هناك الاتحاد النقابي الفوضوي الذي كان يدعو بحزم لإسقاط الرأسمالية لكنه في الوقت نفسه وقف ضد أي مشاركة فعالة على الصعيد السياسي.

وعلى الرغم من أن جميع قوى اليسار الاسباني أدركت في ذلك الوقت أن القضايا الأساسية التي تواجه الثورة كانت مسألة الديمقراطية وإجراء إصلاح زراعي جذري، إلا أن سرعان ما أصبحت الصورة واضحة بأن دعم مكاسب الثورة والحفاظ عليها كان يقتضي ضرورة تحدي الرأسمالية الاسبانية بشكل حاسم.

كانت قضية الإصلاح الزراعي هي الأكثر إلحاحاً في الثورة الاسبانية؛ فالإنتاج الزراعي كان يشكل نصف الإنتاج المحلي لأسبانيا وثلثي صادراتها، وكان 70% من سكان اسبانيا يعملون في الزراعة بينما كان ثلثي الأراضي الزراعية في حيازة طبقة رفيعة من المالكين.

انتفض الفلاحون مطالبين بمصادرة الملكيات الكبيرة للأرض وإعادة توزيعها على الملايين من العائلات الفقيرة في الريف، لكن هذا المطلب كان سيضرب مصالح الرأسمالية الاسبانية في مقتل. كانت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية مرهونة للبنوك إذ كان كبار ملاك الأرض غارقين في الديون لهذه البنوك، وبالتالي فإن نزع الملكية العقارية لم يكن سيهدد مصالح الملاك الإقطاعيين فقط، بل أيضاً سيضع الرأسمالية في حالة شلل تام. لذا كانت الحكومة الجمهورية، والتي دافعت عن الإصلاح التدريجي للرأسمالية، تماطل في وعودها في إجراء إصلاح زراعي يهب الأرض لمن يفلحها.

أما العمال، والذين كان لهم الفضل في الإطاحة بحكومة بريمو دي ريفيرا، فقد رفعوا مطالبهم بزيادة الأجور وصرف إعانات البطالة وتطهير مصانعهم ومؤسسات عملهم من الرؤساء الملكيين. وفي المقابل لم تكن الحكومة تستجيب لتلك المطالب إلا بدعوة العمال للصبر وبذل المزيد من الجهد لمساندتها.

وبالتالي عاشت الحكومة الجمهورية أزمة عميقة بين مطالب وتطلعات العمال والفلاحين الذين انتخبوها في السلطة، وبين دفاعها المستمر عن المصالح الرأسمالية. وهكذا عجزت هذه الحكومة حتى عن تحقيق حد أدنى من الإصلاحات الديمقراطية، فلا يمكن تحقيق مثل تلك الإصلاحات واستكمالها إلا عبر ترسيخ المنظمات القاعدية للطبقة العاملة.

أوضح ليون تروتسكي هذا الوضع عام 1931، عندما كتب أن: "حكومة مدريد تبقي فيض من الوعود بتدابير قوية ضد البطالة ولتوزيع الأرض، لكنها لم تقوى لمرة واحدة على لمس أي من القرح الاجتماعية العميقة. هذا التناقض بين التطور الشامل للثورة وبين سياسات الطبقات الحاكمة الجديدة، في تطوره المستقبلي، إما أن يدفن الثورة أو ينتج ثورة جديدة".

لم يكن النضال من أجل المطالب الديمقراطية هو فقط نضالاً من أجل دولة أقل قمعاً وعنفاً، بل كان في القلب من النضال باتجاه سلطة العمال والاشتراكية. والطبقة العاملة، كما جادل تروتسكي دائماً، هي الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة النضال من أجل الديمقراطية وتوزيع الأرض، وحتى حقوق الأقليات المضطهدة في المجتمع. لكنها خلال ذلك تقاتل الطبقة العاملة من أجل تطلعاتها الاشتراكية.

أزمة الجمهورية الثانية

في أقل من شهرين من تشكيل الحكومة الجمهورية، سددت الحكومة أول ضرباتها للحركة العمالية حين أعدم الحرس المدني عشرة عمال في مايو 1931 بعد اشتباكات بينهم وبين مجموعات ملكية. وفي يوليو من نفس العام، نظم عمال إشبيلية إضراباً عاماً تأييداً لمسيرة عمال التليفونات المحليين، وما كان من الحكومة سوى أن أعلنت الأحكام العرفية ليستشهد 40 عامل ويسقط 200 آخرون جرحى في معارك ضارية في الشوارع.

وما لبث الفوضويون حتى شنوا هجوماً مضاداً رداً على الحكومة. ففي يناير 1932 دعا الفوضويون للعصيان في مدينة ألتو لوبريجات بإقليم كتالونيا، لكن سرعان ما توجهت القوات العسكرية لسحق العصيان. وتكرر الأمر بعد ذلك بعام، في يناير 1933، حين دعا الفوضويون مرة أخرى للعصيان تأييداً لإضراب عمال السكك الحديدية، وهذه المرة قامت عدد من الانتفاضات المنفصلة في كتالونيا وفالينيكا وبعض المناطق في الأندلس. لكن سرعان ما كان يتم قمع كل من تلك الانتفاضات على الفور وبشكل عنيف، حيث لم يجد الجيش الاسباني "شديد المركزية" أي مشكلة في قمع الانتفاضات التي لم تأتي مجتمعة بل جاءت متعاقبة زمنياً ومعزولة عن بعضها جغرافياً.

بعد حوالي أسبوع من انتفاضات يناير 1933، قام الفوضويون بمصادرة أراضي زراعية شاسعة بالقرب من كاساس فيجاس، ولم تتردد الحكومة في إرسال الجيش لاستعادة النظام، وخلال معارك عنيفة قتلت قوات الجيش المئات من الثوار وأحرقت بعضهم أحياءاً.

كان المشهد المأساوي للقتال بين جنود الجيش المسلحين بالبنادق والمدافع وبين الفلاحين المسلحين بالفئوس والمناجل، ووقوع مئات الشهداء من الفلاحين، قد فضح موقف الحكومة الجمهورية بشكل كامل أمام الجماهير الغاضبة.

تلقى الفوضويون هزيمة قاسية بعد أن تم سحق الانتفاضات التي كانوا يبادرون بالدعوة إليها، كما ألقي القبض على الآلاف من المناضلين النقابيين. وبينما كان الفوضويون يتراجعون إثر الضربات القاسية، والحزب الاشتراكي يفقد شرعيته وسط الجماهير نتيجة لدوره المخزي في الحكومة، بدت الأمور مهيأة لقوى اليمين كي تتصدر المشهد.

بدأت الأحزاب اليمينية في إبراز الانتهاكات والاعتداءات الوحشية للجيش في كاساس فيجاس في جرائدهم ومجلاتهم. وكان ذلك محرجاً للحكومة؛ فالحكومة هي التي ارتكبت المجزرة، أما الاستنكار فقد جاء من جانب أحزاب اليمين التي لا تنظر للفلاحين إلا بكل احتقار. لكن ومع غياب بديل يقدمه اليسار الثوري، أصبحت الفرصة سانحة لأحزاب اليمين لتسيطر على الساحة. وعندما عقدت انتخابات جديدة في نوفمبر 1933، حقق اليمين انتصاراً كاسحاً.. وبدأت ما سُمي فيما بعد بـ"السنتين السود".

الثورة والرجعية

جاء انتصار اليمين في انتخابات نوفمبر 1933 وتشكيله الحكومة في سياق صعود الفاشية في أوروبا ككل. ففي ألمانيا، قام الرئيس المحافظ هايدنبرج بتعيين أدولف هتلر كمستشار ألمانيا في يناير 1933. وفي مارس، نجح الزعيم النمساوي الفاشي انجليبرت دولفوس بإقناع الرئيس للتنازل له عن سلطته الديكتاتورية، بينما كان العمال النمساويون ينتفضون لإسقاط دولفوس وفي النهاية تم سحقهم.

شعرت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة في اسبانيا بالقلق حيال مستقبل بلدهم خوفاً من أن تكون اسبانيا هي التالية في سلسلة صعود الفاشية كما حدث في العديد من بلدان أوروبا الأخرى. وعقب انتخابات نوفمبر، كانت أغلبية مقاعد الكورتيس من نصيب اتحاد اسبانيا المستقلة بقيادة خوسيه جيل روبلز، وهو اتحاد يضم عدد كبير من رجال الصناعة والملكيين بجانب الكثيرين من أتباع موسوليني ودولفوس في اسبانيا.

تأثر أعضاء الحزب الاشتراكي الاسباني واتحاد العمال التابع له كثيراً بفشل الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في تصعيد المقاومة ضد صعود الفاشية لديهم، وأيضاً بملحمة نضال العمال النمساويين ضد فاشية دولفوس والهزيمة القاسية التي تلقوها في النهاية، وقرروا الضغط على قياداتهم من أجل بذل كل الجهود لمنع صعود جيل روبلز من الصعود للسلطة.

وبالفعل استجاب قادة الحزب الاشتراكي وأعلنوا من البرلمان أن أي محاولة لتأسيس نظام فاشي في اسبانيا سوف يتم مواجهتها بالثورة المسلحة. أما الجناح اليساري بالحزب، بقيادة شباب الحزب، فقد أعلنوا عن اعتزامهم التحضير للثورة البروليتارية، وذلك عبر الدعوة لتأسيس جبهة واسعة لكافة التنظيمات العمالية، عُرفت بجبهة "تحالف العمال" Alianza Obrera، للتصدي لقوى اليمين.

وفي الأول من أكتوبر، أدت مطالبة أعضاء اتحاد أسبانيا المستقلة بنصيب لهم في الحكومة، إلى انهيار حكومة ليروكس. وفي المقابل شكل ليروكس حكومة جديدة ضمت 4 وزراء فاشيين من اتحاد اسبانيا المستقل، وجاءت المهزلة حينما وافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي على مشاركة الفاشيين في هذه الحكومة، وذلك بعد مرور أقل من شهرين فقط على تهديده باللجوء للعمل المسلح في مواجهة صعود الفاشية للسلطة.

وفي الرابع من أكتوبر، دعا كل من جبهة تحالف العمال واتحاد العمال العام إلى إضراب عام، في حين لم تلتزم الكثير من القيادات الإصلاحية للحزب الاشتراكي بالدعوة للإضراب. مُني الإضراب بفشل ذريع بعد أن تم تأجيل البدء فيه مرتين على أمل أن يخضع ليروكس للضغط ويقوم بإزاحة الوزراء الفاشيين من حكومته. وفي النهاية أطلق اتحاد العمال دعوة الإضراب العام وذلك بعد أن كانت الحكومة قد أعلنت الأحكام العرفية، ليتم إلقاء القبض على المئات من المناضلين الاشتراكيين المنظمين للإضراب.

تمرد عمال أستورياس

على الرغم من الفشل الذي مُني به الإضراب، إلا أنه كان مختلفاً في منطقة التعدين بإقليم أستورياس، حيث انضم هناك اثنين من أكبر التنظيمات العمالية، اتحاد العمال العام والاتحاد النقابي الفوضوي تحت ضغط قواعدهما العمالية، إلى جبهة تحالف العمال، ووقّع الطرفان اتفاقاً فيما بينهما يقتضي بـ"العمل المشترك حتى قيام الثورة الاجتماعية في اسبانيا".

حينما انطلقت الصفارات في أستورياس معلنة بدء الإضراب، توجهت ميليشيات عمالية مشتركة لمهاجمة الحرس المدني التابع للحكومة وقامت بنزع سلاحه تماماً. نظم العمال مسيرة عملاقة بمدينة أوفييدو، عاصمة إقليم أستورياس، وجمعوا كل قوتهم ونجحوا في الاستيلاء على كل الأراضي الزراعية المملوكة للإقطاعيين وأعادوا توزيعها على عائلات الفلاحين الفقراء، كما قاموا بمصادرة كافة المصانع والمناجم بالإقليم.

قام 8 آلاف من عمال المناجم المسلحين باحتلال العاصمة أوفييدو لخمسة عشر يوماً صامدين في مواجهة الحصار الذي فرضته عليهم القوات المسلحة التي أرسلتها الحكومة لسحق الإقليم. وكانت المذبحة مروّعة حيث راح أثناء القتال زهاء ثلاثة آلاف شهيداً من العمال بجانب آلاف آخرين تم الزج بهم في المعتقلات.

أظهر التمرد العمالي في أستورياس الميل الجارف لدى القواعد العمالية من الأحزاب المختلفة للعمل بشكل مشترك معاً، أما بالنسبة للقيادات فقد كان الأمر مختلفاً. وعلى سبيل المثال، عندما وقعت لجنة الاتحاد النقابي الفوضوي في أستورياس الاتفاق المشار إليه مع اتحاد العمال العام، قامت قيادة الاتحاد بتوبيخها بشدة على ذلك، فيما قام عمال أستورياس بالرد على القيادة كالتالي: "في الصراع الاجتماعي، كما في أي صراع آخر، يكون النصر من نصيب أولئك الذين يجمعون أنفسهم وينظمون صفوفهم جيداً". على المستوى القومي، رفضت قيادة الاتحاد النقابي الفوضوي الدخول كطرف في جبهة تحالف العمال التي تضم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يرفض الفوضويون العمل المشترك معه.

وبالتأكيد كانت كراهية الفوضويين للاشتراكيين في اسبانيا تتضاعف بالأخص مع المواقف الانتهازية للحزب الاشتراكي في ذلك الوقت. أما بالنسبة لقيادات الحزب الاشتراكي، فلم يعتبروا جبهة تحالف العمال، والتي قادت التمرد العمالي في أستورياس والتي كان الاشتراكيون أنفسهم طرفاً فيها، أكثر من ورقة لا قيمة لها.

لكن الفوضويون حينما تجاهلوا نداءات الانضمام لجبهة تحالف العمال، فهم بذلك قد أداروا ظهورهم لملايين العمال الذين أظهروا استعداداً هائلاً للنضال ضد قوى اليمين الفاشي، أو على الأقل تركوهم لتردد القيادات الإصلاحية والوسطية للحزب الاشتراكي، مما أدى إلى تفتيت قوى الطبقة العاملة وأسرع من الهزيمة التي تلقاها العمال في أستورياس.

وبالنسبة للتحالف اليميني في الحكومة بقيادة ليروكس، فقد مثلت مذبحة أستورياس بداية النهاية له. فقدت قوى اليمين مصداقيتها بين الجماهير وانتعشت نضالية الملايين من العمال والفلاحين، وعندما دعت الحكومة لانتخابات جديدة، لم يكن أحد يشك أن اليسار سوف يحقق انتصاراً حاسماً، لكن على الرغم من الهزيمة السياسية المؤقتة لقوى اليمين، إلا أنهم في ذلك الوقت كانوا يعدون للانقلاب العسكري مصطفين خلف أحد أبرز زعماء الفاشية في القرن العشرين.. الجنرال الفاشي فرانشيسكو فرانكو.

*****************************


الثورة الاسبانية (الجزء الثاني)

تم نشر المقال لأول مرة في 18 أغسطس 2011، بجريدة العامل الاشتراكي الإلكترونية الأمريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة

في الجزء الثاني والأخير من سلسلة الكاتب الاشتراكي الأمريكي "جيف بايلي" حول الثورة الاسبانية، يتناول بايلي ما حدث خلال سنوات الصراع والحرب الأهلية بين ثورة الطبقة العاملة في اسبانيا والجنرالات الفاشيين الذين قادوا الثورة المضادة في الفترة بين يوليو 1936 إلى أبريل 1939.

ثورة العمال والردة الرجعية

لاقت الانتخابات التي أجريت في فبراير 1936 احتفاءاً هائلاً من جانب العمال والفلاحين عبر كافة أرجاء اسبانيا؛ فخلال السنتين السابقتين، والمعروفين بالسنتين السود، كانت حكومة اليمين تمارس أقسى الهجمات على حياة الملايين من العمال والفلاحين في اسبانيا. تم خفض أجور عمال الزراعة إلى النصف، وبشكل مستمر كان يتم طرد كافة الجمهوريين واليساريين من مواقع عملهم في الجيش أو المصانع والمؤسسات العامة أو الجامعات.

لذا عندما تلقت قوى اليمين هزيمة ساحقة في تلك الانتخابات على يد التحالف الانتخابي لأحزاب اليسار مع الأحزاب الجمهورية (والذي عُرف بتحالف الجبهة الشعبية)، كان لذلك صدى احتفالي واسع النطاق في القرى كما في الأحياء العمالية في اسبانيا.

لم تكن الجبهة الشعبية تحالفاً راديكالياً، بل كانت تحالفاً انتخابياً لأحزاب الطبقة الوسطى الجمهورية واليسارية، إذ كانت تضم كل من الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الذي كان صغيراً في ذلك الوقت، بجانب الأحزاب القومية الكتالونية. واقتصر برنامج الجبهة الشعبية على العفو عن كافة المعتقلين السياسيين على خلفية انتفاضة 1934 في أستورياس، وإصلاح زراعي محدود بالإضافة إلى إرساء الحكم الذاتي (وليس الاستقلال) لإقليم كتالونيا.

وعلى الرغم من محدودية برنامج الجبهة الشعبية، إلا أن غالبية العمال في اسبانيا رأوا انتصار الجبهة الشعبية في الانتخابات وتشكيلها للحكومة بمثابة استمرار للثورة التي بدأت في 1930، وكما عبر أحد المناضلين الاشتراكيين في مدريد، فإن: "العمال يرغبون في التقدم خطوات أكبر للأمام، فهم غير قانعين فقط بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة العمال الذين كانوا قد تم فصلهم من أعمالهم إثر عصيان أكتوبر 1934. وبشكل عفوي، يضغط العمال لدفع الثورة إلى الأمام، ليس بالضرورة كي يحوذوا السلطة أو أن يشكلوا السوفيتات، لكن لإحراز المزيد من الانتصارات التي بدأتها الثورة منذ إعلان الجمهورية".

أما على الجانب الآخر، رأى اليمين انتصار الجبهة الشعبية في الانتخابات بمثابة إعلان للحرب عليهم، وبدأ اليمين المتطرف في الإعداد للانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً. وفي 17 يوليو، أطلق الجنرال الفاشي فرانشيسكو فرانكو الحامية الاسبانية سيئة السمعة في المغرب ليضع الانقلاب العسكري قيد التنفيذ العملي.

لم تكن تلك الهجمة موجهة فقط لحكومة الجبهة الشعبية، بل أيضاً لكافة منظمات الطبقة العاملة التي أتت بهذه الحكومة للسلطة. فعلى سبيل المثال، بعد السيطرة على حامية الجيش بأشبيلية وقّع الجنرال جونزالو كويبو ديلانو مرسوماً يقضي بالإعدام الفوري رمياً بالرصاص لكل من يحرض أو ينظم إضرابات عمالية.

لقد حظى الانقلاب بتأييد واسع بين الأحزاب اليمينية وقطاعات متفرقة من الجيش، فيما كان من الممكن التصدي لهذا الانقلاب المعادي للثورة بسهولة، فقط إذا قامت حكومة الجبهة الشعبية بتسليح الجماهير المنظمة للدفاع عن نفسها. ففي الكثير من المناطق التي استولى فيها العمال على السلاح، كان العمال ينجحون بالفعل في دحر قوات فرانكو.

تمركزت القوات الفاشية في العديد من المراكز الصناعية كما في الأراجون وأغلب مناطق الأندلس، بالإضافة إلى الكثير من المناطق التي تنتشر بها المنظمات الفلاحية الراديكالية. وكما أوضح المؤرخان الماركسيان بيير بروي وإيميل تيميم فإن:

"في كل مرة يسمح العمال لأنفسهم بأن يخضعوا لاحترام الشرعية الجمهورية، وفي كل مرة يتقبل قادتهم ما يقوله لهم الضباط، يفقدون السيطرة ويعانون حالة من الشلل الكامل. على الجانب الآخر، في كل مرة يتجاهل فيها العمال "شرعية" السلطة ويجدون الفرصة وينجحون في تسليح أنفسهم، تعود الحركة الثورية مرة أخرى لحيويتها ونشاطها".

كانت الفرصة سانحة أمام حكومة الجبهة الشعبية للدفع من أجل إجراء إصلاح زراعي جذري في الريف، وكان ذلك سيؤجج الصراع بين جنرالات الجيش وبين الجنود الفقراء المنحدرين بالأساس من عائلات فلاحية فقيرة. كان لدى حكومة الجبهة الشعبية الفرصة أيضاً لإعلان استقلال المغرب، وكان من شأن ذلك أن يجلب دعماً غير محدوداً من جانب الحركة الوطنية المغربية التي ستفتح بدورها جبهة إضافية للقتال ضد قوات فرانكو.

لم تفعل الحكومة "الجمهورية اليسارية" أي من ذلك، وفي المقابل وجدت نفسها مشلولة بالكامل وفاقدة لأي سيطرة على مجريات الأمور. كان لديها القدرة على تصعيد الصراع ضد الفاشية وتحطيمها، أو على الأقل إضعافها، لكن وجدت نفسها مكبلة بالأغلال التي قيدت نفسها بها: الدفاع عن مصالح الرأسمالية والإصلاح التدريجي لها.

في البداية تعمدت الحكومة إظهار انقلاب فرانكو على نحو أقل مما يبدو عليه في الواقع، فيما كانت تحاول إيجاد بعض الطرق للتفاوض مع قوى اليمين. وكان رد الفعل الأول من جانب حكومة الجبهة الشعبية هي أن قامت بحل نفسها وعرضت تشكيل حكومة جديدة تضم وزراء يمينيين من خارج الجبهة الشعبية.

في هذا الوقت، كانت سلطة الجبهة الشعبية تتآكل بسرعة مخيفة؛ فاليمين قد رفض عرض الحكومة وأيد الانقلاب بالكامل، وهرّب الرأسماليون الكبار كل أموالهم خارج البلاد واضعين الاقتصاد تحت تهديد خطير. وعلى الجانب الآخر، انحل جهاز الشرطة وانضم لجانب الثوار. صحيح أن الجبهة الشعبية كانت في السلطة آنذاك، لكن السلطة كانت تتفتت وتنساب كالرمال من بين أيديها.

الثورة والحرب الأهلية

في الوقت الذي كانت فيه مؤسسات المجتمع القديم تنهار وتتحلل، كانت الحركة العمالية تنظم أشكال جديدة بدلاً منها. استولى العمال على الكثير من السيارات والشاحنات الكبيرة وخصصوها لنقل الميليشيات العمالية التي أنشأوها حديثاً، نظموا خدمات الإسعاف المتنقل وأداروا بأنفسهم العديد من الخدمات الأخرى كالمطاعم العمومية ووسائل النقل الجماعي والمستشفيات، إلخ.

وفي الكثير من المدن، استولى العمال على المصانع وسيطروا عليها بشكل كامل، كانوا ينتخبون ممثلين عنهم لمراقبة سير الإنتاج والتنسيق بين مواقع الإنتاج والتوزيع المختلفة. وصف الروائي البريطاني الشهير، جورج أورويل، تلك المشاهد المبهرة للمجتمع تحت السيطرة العمالية، لدى وصوله لمدينة برشلونة بعد حوالي ستة أشهر من انقلاب فرانكو. هكذا كتب في روايته "الحنين إلى كتالونيا":

"كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مدينة تحت السيطرة الكاملة للطبقة العاملة. كل المباني بكل الأحجام تمت مصادرتها من قبل العمال، وتم تزيينها بالأعلام السوداء والحمراء للفوضويين. كل الحوائط منحوت عليها المنجل والمطرقة والأحرف الأولى للأحزاب الثورية..".

لم يكن الأمر مختلفاً في الريف على الإطلاق؛ فالفلاحون الفقراء قد صادروا أراضي الإقطاعيين وأعادوا توزيعها، وفي الكثير من المناطق، حولوها إلى تعاونيات للإنتاج الجماعي بينهم (كوميونات). يتحدث أحد الفوضويين من بلدة ميمبريلا، واصفاً بلدته كالتالي:

"في 22 يوليو، تمت مصادرة جميع الملكيات الكبيرة للأرض وأصبحت بين أيدي الكوميونة. كانت الخزانة المحلية فارغة، لكن تم مصادرة 30 ألف بسيتات وإيداعهم بالخزانة. كل الطعام والملابس والمعدات، إلخ، تم توزيعها بالتساوي بين السكان. تم تجميع العمل، لم يكن هناك حاجة للمال، الملكيات الكبيرة تم مصادرتها من قبل المجتمع، أما توزيع السلع الاستهلاكية فقد كان يتم بشكل اجتماعي.. كان يتم توزيع ثلاثة ليترات من النبيذ اسبوعياً لكل شخص، أما الكهرباء والماء والدواء والرعاية الصحية، فكانت تقدم بالمجان".

في كل المنعطفات الهامة خلال الثورة الاسبانية، كانت حكومة الجبهة الشعبية تحاول جذب الثورة إلى الخلف، ومنذ البداية لم تنظر الأحزاب الجمهورية للثورة إلا بنظرة احتقار وكراهية. لكن حتى عام 1936، كانت تلك الأحزاب تحتفظ ببعض التأييد الجماهيري، واستطاعت الصعود للسلطة عبر التعاون مع أحزاب اليسار.

وكما اعتادت قيادات الحزب الاشتراكي أن تفعل قبل صعود الجبهة الشعبية للسلطة، استمرت تلك القيادات في دفاعها المستميت عن الأحزاب الجمهورية وسياساتها. الجديد أن قيادات الحزب الشيوعي هي الأخرى سارت على نفس النهج.

منذ تأسيس الحزب الشيوعي الاسباني في 1921، فشل الحزب الشيوعي في أن يحظى بتأييد جماهيري واسع حتى بداية الحرب الأهلية التي دشنها الانقلاب الفاشي لقوات فرانكو. فقادة الحزب الذين كانوا يتبعون استراتيجية ستالين في الكرملين الروسي، قد حولوا الحزب من سلاح في يد الطبقة العاملة خلال نضالها الثوري إلى أداة لتنفيذ سياسات ستالين الخارجية.

انقلب الحزب الشيوعي الاسباني من التطرف اليساري، حيث رفضه القاطع للعمل المشترك مع منظمات العمال الإصلاحية خلال النصف الأول من عقد الثلاثينات، إلى الدفاع المستميت عن الجبهة المتحدة وحكومتها وسياساتها المترددة. كان ستالين يرغب في جلب دعم الحلفاء إليه في مواجهة الفاشية، في الوقت الذي كان يواجه فيه عداءاً متزايداً من جانب الحكومة النازية في ألمانيا.

ومنذ الأيام الأولى للحرب الأهلية، وضعت حكومة الجبهة الشعبية، بمساعدة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، الكثير من القيود على الفلاحين الذين يصادروا الملكيات الكبيرة للأرض، وعلى العمال الذين يستولون على المصانع ويديرونها ذاتياً. كما مررت قانوناً يمنع تحت أي ظرف مصادرة أيٍ من الأصول المملوكة لشركات أجنبية في اسبانيا. كانت الجبهة الشعبية ترغب في توحيد القوى المناهضة للفاشية، بما فيها قطاعات من البرجوازية الاسبانية، لذا قررت كبح نضال العمال والفلاحين كي لا تغضب البرجوازية.

تلك الاستراتيجية لم تعرقل الثورة فحسب، بل أيضاً أجهضت النضال ضد فرانكو واليمين المتطرف. كان فرانكو متفوقاً على الجبهة الشعبية من الناحية العسكرية؛ فقد كان يحظى بتأييد قطاعات عديدة في الجيش، إلى جانب تلقي دعماً مالياً هائلاً من كبار الرأسماليين الأسبان، كل ذلك بالإضافة إلى الإمدادات العسكرية التي كان يتلقاها من الحكومة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. ولكن كما كتب الثوري الروسي ليون تروتسكي في ذلك الوقت، فإن:

"الحرب الأهلية لم تندلع بالقوة العسكرية فقط، لكن بالأسلحة السياسية أيضاً. فمن وجهة النظر العسكرية الخالصة، فإن الثورة الاسبانية أضعف كثيراً من عدوها. لكن قوتها تكمن في قدرتها على إيقاظ الجماهير الغفيرة للحركة، في قدرتها حتى على كسب الجيش من ضباطه الرجعيين. ولإنجاز ذلك، من الضروري أن يُقدم بكل جدية وجرأة برنامج الثورة الاشتراكية".

الفشل في الاستيلاء على السلطة

كانت الحكومة لا تزال تحتفظ بالسلطة في مدريد، لكن تطور المقاومة ضد اعتداءات قوات فرانكو ترك مدناً بأكملها تحت السيطرة المطلقة للعمال والفلاحين. لم يظهر ذلك بمثل هذا الوضوح في أي مدينة كما ظهر في برشلونة –قلب الحركة العمالية الاسبانية.

في برشلونة، لم تكن حكومة الجبهة المتحدة تحوذ أي سلطة، وفي المقابل كان الاتحاد النقابي الفوضوي يسيطر على مجريات الأمور بشكل كامل هناك؛ فقد كان الفوضويون ينظمون الخدمات الطبية والمطاعم العمومية، بالإضافة إلى الدور الهام الذي لعبوه في تنظيم لجان محلية للدفاع عن الثورة وتدريب الميليشيات المسلحة للتصدي للهجمات الفاشية.

في هذه الحالة من "السلطة المزدوجة"، بلغت الحكومة من الضعف بحيث لم تكن قادرة على اتخاذ أي قرار إلا إذا اتفق مع قرارات الاتحاد النقابي الفوضوي. ولعل أبرز الأمثلة على مدى ضعف الحكومة هو عندما استدعى رئيس الحكومة في كتالونيا عدد من قادة الفوضويين وأبلغهم بأنه على استعداد للتخلي عن السلطة وتسليمها للاتحاد الفوضوي.

لكن الفوضويين، الذين يرفضون أي شكل من أشكال السلطة –حتى السلطة العمالية- رفضوا العرض. وكما أوضحت الزعيمة الفوضوية فديريكا مونتسيني أن "ضميرها كفوضوية لن يسمح لها بذلك، فالاستيلاء على سلطة ديكتاتورية ليس له علاقة بالفوضوية". وبعد جدالات طويلة، أعلن الفوضويون أنهم سيسمحون لحكومة الجبهة الشعبية للاستمرار في السلطة.

إعادة فرز اليسار

في محاولة لإنقاذ حكومة الجبهة الشعبية من مأزقها، تم تشكيل حكومة جديدة بقيادة أحد قيادات الجناح اليساري من الحزب الاشتراكي فرانشيسكو لارجو كاباليرو، الذي كان يشغل كذلك منصب وزير الحرب، فيما عرض كاباليرو مناصب وزارية في الحكومة الجديدة على بعض قيادات الاتحاد النقابي الفوضوي، بينما كان الفوضويون يتجنبون المشاركة في أجهزة الدولة مستندين إلى قوة اللجان المحلية للعمال والفلاحين للدفاع عن مكتسبات الثورة.

ولكن، كما هو الحال في أي من المنعطفات الثورية، لا يمكن أن تستمر حالة السلطة المزدوجة دون حسم واضح من أي من الطرفين؛ فإما أن تتقدم القوى الثورية في الصراع وتقوم بإحلال أجهزة الدولة القائمة، أو أن تسترد قوى النظام القديم توازنها وتقوم للإجهاز على الثورة.

أما الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، فقد أصبحا يلعبان أدواراً أكثر أهمية في الحكومة من خلال قدرتهما على الحصول على الأموال والسلاح من الاتحاد السوفيتي، لكنهما في الوقت الذي كانا يسيطران فيه على خطوط الإمداد، كانا يحرمان الميليشيات الثورية من السلاح.

ومن جانب الفوضويين، فقد تخلوا عن رغبتهم في إسقاط الدولة وفي النهاية تمت استمالتهم للتعاون مع الحكومة، ووافقت قيادات الاتحاد النقابي الفوضوي على أن يشغلوا 4 مناصب وزارية مثلما عرض عليهم رئيس الوزراء الاشتراكي، كاباليرو.

ومرة تلو الأخرى، على الرغم من الفشل المتكرر للأحزاب اليسارية في السلطة، إلا أن العمال والفلاحين كانوا يظهرون قدراً هائلاً من الشجاعة والتضحية في التصدي لفرانكو والدفاع عن الثورة. فعندما هاجمت قوات فرانكو العاصمة مدريد، هربت الحكومة مع أغلب قيادات الأحزاب السياسية والنقابات، فيما عدا الشيوعيين، فيما هب سكان مدريد للدفاع عن العاصمة بكل بسالة. هكذا يصف أحد شباب المقاومة ما حدث، فـ"عندما هربت الحكومة شعرنا بالخيانة، وتوقعنا أن العدو سيستحوذ على المدينة بسهولة، لكنه لم يستطع ذلك. كانت هناك دعوات في كل مكان للدفاع عن المدينة.. من الأفضل لنا أن نموت على أن نعيش راكعين".

جمع الرجال والنساء والأطفال ما استطاعوا جمعه من السلاح من كل مكان. كانت نقابة عمال النقل توفر وسائل مواصلات مجانية لنقل العمال من أحيائهم إلى الجبهة حيث القتال ضد قوات فرانكو. ولأسابيع عديدة، أبرز العمال بطولات مذهلة في قتالهم ضد الفاشيين في كل حي وفي كل شارع. وفي كثير من الأحيان، كان المئات من الرجال والنساء يذهبون إلى الجبهة دون سلاح.. فقط لعلاج المصابين أو لانتظار استشهاد بعض من رفاقهم كي يأخذوا أسلحتهم ويحلون محلهم في القتال.. كان الشعار الوحيد الذي يتردد في كل أرجاء مدريد "لن يمروا".

وبعد شهر كامل من القتال، بدأت قوات فرانكو في التراجع إثر المقاومة البطولية لعمال مدريد. كان الحزب الشيوعي هو الوحيد الذي استفاد سياسياً من الدفاع عن مدريد. فعندما هربت حكومة الجبهة الشعبية من العاصمة، أخذت معها أغلب قيادات الأحزاب والنقابات فيما عدا الشيوعيين الذين وقعت بين أيديهم مهمة تنظيم الدفاع عن مدريد.

وبعد نجاح المقاومة العمالية في التصدي لفرانكو، كانت الصحافة الشيوعية تشيد ببطولة الشيوعيين في الحفاظ على مدريد، حيث كان الشيوعيون ينظمون الألوية الأممية القادمة للقتال ضد فرانكو، كما كانوا يتلقون دعماً هائلاً من الاتحاد السوفيتي بالمال والسلاح والمقاتلين للدفاع عن المدينة.

استغل الشيوعيون الشعبية الجديدة التي تولدت لهم في الضغط للتحكم في الجيش الشعبي وقوات الشرطة، حيث كانوا يحظون آنذاك بتأييد واسع من قادة الجناح اليميني للحزب الاشتراكي والكثير من قيادات هيئة الضباط. حينها، كان للحزب الشيوعي اليد العليا في توزيع السلاح وحجبه عن الميليشيات العمالية سواء تلك التي نظمها الاتحاد النقابي الفوضوي أو حزب العمال للتوحيد الماركسي (حزب صغير معادي للستالينية يرتكز بالأساس في إقليم كتالونيا). كان الهدف من ذلك واضحاً؛ لتبقى كل مقاليد الأمور خلال الحرب الأهلية فقط بين يدي الحزب الشيوعي.

الهزيمة

كانت برشلونة هي قلب اسبانيا الثورية، لكن عندما تراجعت الثورة في كل أرجاء اسبانيا، سادت حالة من الهدوء في برشلونة. كانت كل مظاهر الحياة تحت سيطرة الفوضويين والميليشيات العمالية، لكن الحكومة كانت تستعيد سلطتها ببطء وتسعى جاهدة لتقليص استقلالية اللجان الثورية.

مرة أخرى يصف الروائي المقاتل جورج أورويل، لدى عودته من الجبهة، التغيرات التي طرأت على المدينة منذ أن آخر مرة رآها قبل الحرب الأهلية:

"في ظل المرح البادي على البلدة بملصقات الدعاية والحشود الغفيرة، كان هناك شعور مروّع بالتنافس السياسي والكراهية. كان الناس من جميع الأطياف ينذرون بقرب وقوع اضطرابات وشيكة. كان الخطر بسيط وواضح، فقد كانت الخصومة كبيرة بين أولئك الذين يتمنون أن تتقدم الثورة وأولئك الذين يرغبون في إيقافها. أي بين الفوضويين والشيوعيين".

وقع الصدام –الذي كان متوقعاً- في صباح 3 مايو، عندما وصلت قوة حكومية تحت قيادة أحد الوزراء الشيوعيين إلى مبنى للاتصالات تحت سيطرة الفوضويين لإنذارهم بالطرد من المبنى. كان ذلك اختبار حاسم للقوة، فالفوضيون كانوا قد صادروا المبنى منذ الأيام الأولى للقتال في يوليو، ومنذ ذلك الحين والمبنى تحت الإدارة العمالية المباشرة مثله مثل الكثير من المؤسسات والمصالح العامة في البلاد. وما تلى ذلك كان قتالاً عنيفاً استمر اسبوعاً كاملاً بين الشيوعيين والفوضويين.

ومنذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها المعارك، أصبح هناك أمران واضحان لا يمكن إنكارهما. الأول، أن الانتفاضة العفوية في برشلونة تحظى بتأييد أغلبية العمال في إقليم كتالونيا كله. والثاني، أن هذا الاستفزاز من قبل الحكومة لا يعني سوى شن الحرب على الثورة، وهذه المرة حاسمة؛ فإما أن يتقدم العمال ويطيحون بالحكومة، أو أن تكون هزيمتهم بداية لنهاية الثورة. لم يكن هناك ما يضمن دعم انتفاضة برشلونة خارج كتالونيا، لكن هزيمة برشلونة كانت تضمن هزيمة الثورة بأكملها.

لجأت الجبهة الشعبية للاستعانة بالاتحاد النقابي الفوضوي وأرسلت اثنين من الوزراء الفوضويين لبرشلونة للإلحاح على رفاقهم كي يتخلوا عن السلاح. استمرت المتاريس قائمة بعد ذلك بخمسة أيام في غياب تام للقيادات الفوضوية، وفي النهاية غادرها الثوار في حالة من الإحباط والاستنكار، وانهزمت الثورة.

شهدت الشهور التالية سيطرة تامة من الردة الرجعية، كان يتم اعتقال القادة الثوريين وتعذيبهم، واغتيالهم في كثير من الأحيان. أما اللجان الثورية فقد تحطمت، وتم حل الميليشيات الشعبية ودمجها في الجيش النظامي التابع لحكومة الجبهة الشعبية.

استمرت الحرب لعامين آخرين، لكن هزيمة برشلونة حسمت نتيجة الحرب. وعندما زحفت قوات فرانكو إلى المدينة في يناير 1938، لم تلقى أي تصدي، لم يكن هناك أي متاريس ولا دعوات للمقاومة المسلحة.

لم تكن فقط معارضة الفاشيين هي التي حركت الملايين من العمال والفلاحين للقتال والموت أثناء النضال ضد فرانكو. لكن الأهم من ذلك هو الأمل في أن الانتصار كان سيقود إلى إعادة تنظيم المجتمع بشكل ثوري لبناء مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية.

واليوم تبقى دروس الثورة الاسبانية ملهمة للجيل الجديد الذي يقود معركته من أجل الديمقراطية. وفي كل التجارب الثورية، تخوض الثورات في البداية فترة من الوحدة لكل المعارضين للنظام القديم، لكن مع تطور الصراع تضغط القوى المحافظة على العمال واليسار الثوري للتخلي عن مطالبهم من أجل الحفاظ على هذه الوحدة.

لا يمكن للثورات أن تتوقف عند منتصف الطريق؛ فإما أن تتقدم الثورات لتتحدى وتحطم حدود النظام الرأسمالي القائم، أو أن قوى النظام القديم تستعيد سيطرتها على مجريات الأمور من جديد، سواء بانتصار ساحق للثورة المضادة أو بسيطرة القطاعات الأكثر محافظة في الحركة الثورية.

والضمانة الحقيقية لانتصار الثورات هي تعميق وتوسيع رقعة الحركة الثورية. وعلى الرغم من الهزيمة التي تلقتها الثورة في اسبانيا في عقد الثلاثينات، إلا أنها قد أعطت لنا مثالاً مبهراً لسير العملية الثورية وضمانات النصر. وما نراه اليوم في شوارع القاهرة ودمشق وأثينا وغيرها من المدن عبر العالم.. بحاجة لأن يمتد ويكتمل حتى النصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا