الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسات الهوية ومفهوم الهجنة

سعد محمد رحيم

2015 / 11 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا ما نظرنا إلى الهوية بوصفها نتاجاً لإحداثيات متغيرة تنتقل في فضاء خريطة سوسيوـ ثقافية متعددة، مجسّمة، نكون قد أحطنا بحدود متحركة لها.. ليست ثمة للمرء هوية واحدة، نهائية، تطبع صورته من لحظة الولادة إلى لحظة الموت.. الهويات المتآلفة والمتضادة والمتصارعة في دواخلنا تجعل من الهوية معضلة مرتهنة بالزمان والمكان.. فالهوية سردية تاريخية مفتوحة.. الثابت الموروث فيها جزء قد يتم تبنيه أو إقصائه، والمتحرك والمتغير هو المادة التي تتشكل الهوية من خلالها وتعاد تشكيلها مراراً وتكراراً.. إن تبنّي ذلك الموروث الثابت، وجعله المادة الرئيسة في تكوين الهوية، وتحنيطه، وتقديسه، والحكم على الآخرين الذين لا يشبهوننا من منظوره، هو المقدمة لنبذ الآخر، وازدرائه، وكراهيته، والميل لممارسة العنف ضده.
لقد أطاح التاريخ، بما هو تيار هائج من الوقائع والتصادمات والغزوات والشرور والإنجازات والتلاقحات والاختلاطات الجنسية والثقافية، بفكرة الأصول النقية، وفرضت فكرة أن الأمم هي حصيلة تمازجات وتفاعلات عرقية وثقافية، وأن صيرورتها هي نتاج لغة وثقافة وحياة مشتركة أفرزت، تاريخياً، قيماً وتقاليد وأنماط سلوك وقناعات. وكوّنت سرديات هي خلاصة رؤيتها لذاتها والآخرين والعالم. ففي السردية الهووية، إلى جانب ما هو معطيات واقعية، ما هو اعتباطي وملفق كذلك، وقد أنشئ بالتراكم في خضم تفاعلات وصراعات أفرزت رؤى وتصورات وأوهام، ورافقتها حقائق وشائعات وأكاذيب وتأويلات وتفسيرات لا أول لها ولا آخر. فالهوية، إذن، موقع يتقاطع فيه التاريخي بالخيالي مشكلِّاً سردية لها مواطن هشاشتها وقصورها وثغراتها. والهوية السردية لأمة ما، من منظور ريكور، حاصلة من حاجة حيوية لمجموعها إلى ( تخيّل ) أنفسهم كأمة لها من القصص والروايات ما يحفظ وجودها التاريخي والثقافي الخاص الذي يجعل ( الهوية ) غير مستقرة ولا هي معطاة سلفاً وإنما هي ( كون مستمر ) و ( خلق ) دائم لوجودها المرسوم بالتغير والتبدل فليست إذن ( الهوية ) وجود بإطلاق خارج عن التاريخ والثقافة".
تكلم هومي بابا عن العيش في المابعد الذي قد يشير إلى مرحلة تالية أو حالة مضادة للماقبل. وكانت تحديقته مركزة في ما بعد الكولونيالية. ويفترض أنه العصر الذي نحياه كونه فضاءً بينياً متداخلاً على "أن تكون جزءاً من زمن إعادة النظر، عودة إلى الحاضر لإعادة توصيف تعاصرنا الثقافي، لإعادة نقش تشاركنا الإنساني التاريخي". حيث علينا أن نؤشِّر حدّ الجديد والإحساس به.
حين يشتد هاجس الهوية عند جماعة ما علينا أن نفهم أمرين، الأول؛ ثمة خطر يستشعره أفراد تلك الجماعة ( حقيقة أو وهماً ) يهدد وجودهم ومصيرهم.. الثاني؛ اتساع احتمالات اللجوء إلى المواجهة وممارسة العنف مع الجماعات الأخرى المهدِّدة ( وأيضاً؛ حقيقة أو وهماً ).. وهنا لن يكون للرأي المفرد المغاير في ضمن الجماعة من أهمية إن لم يُتهم صاحبه بالجبن والخيانة. وفي الغالب يجري تغذية هاجس الهوية عند أفراد جماعات معينة بالتساوق مع تأجيج كراهية الآخرين.. لتبرز ما نسميه بسياسة الهوية والتي "تعني سياسة ملتزمة باسم أولئك الذين هم من ذوي هويات معينة... وأحياناً يُقال أيضاً إن سياسة الهوية تتحرّض بواسطة الرغبة في الحصول على ( الاعتراف )".
واجهت سياسات الهوية جملة اعتراضات، منها أنها تفترض وجود جواهر ما فوق تاريخية للجماعات، وتمحو الاختلافات الداخلية بين أفراد الجماعة الواحدة، وتعمل على وفق مبدأ الإقصاء للجماعات الأخرى، فضلاً عن الاستثمار السياسي لما هو إنساني في الصميم لمصلحة فئات ضيقة على حساب مصلحة الجماعة.. وقد وصفت بأنها بنية اجتماعية للسيطرة "من هنا، حصلت محاولات متكررة للتعبير عن سياسة ( ما بعد هوية ) ثقافية من خلال التحوّل نحو مفاهيم مثل الهجنة hybridity".
الثقافات متنافذة وإن اختلفت، واختلافاتها البارزة للعيان صناعة أحياناً.. ونحن "في حاجة إلى دراسة الكيفية التي من خلالها تُبنى هذه الاختلافات وهي كثيراً ما تخفي ليس نقط التشابه فقط وإنما الروابط المادية والرمزية".
ومنذ الأزمنة القديمة كانت الثقافات تتلاقح وتتفاعل، وتأخذ بعضها من بعض، ومعها تصبح حدود الهويات سائبة أكثر. وفي العصر الحديث مع تطور وسائل النقل والاتصال والتواصل، وتنوع اختصاصات العلوم، واتساع أنطقة البحوث بات من ضرورات الوجود الإنساني وتقدّمه، تبادل المعارف والخبرات، والمضي بالحوار إلى الحد الأقصى، والتعلم من تجارب الآخرين، والاغتراف من ثقافاتهم. فباتت الثقافات الحية متعددة المصادر، منفتحة، ترجمية.. هذا ما نجده في فنون الرسم والنحت والموسيقى والشعر والرواية والعلوم الإنسانية والفلسفات كما في علوم الطبيعة والعلوم التقنية.. وبالبحث في مكونات أية ثقافة نجد هذا الخليط من التأثيرات. وإذن فالثقافات ليست "طرقاً كلانية ( من الحياة ) بل هي بالأحرى مكوّنة من قبل الناس الذين يجمعون الشظايا من حولهم ويعيدون جمعها".
ارتبط استخدام مفهوم الهجنة بالدراسات ما بعد الكولونيالية، وتحديداً بواحد من أبرز أعلامها المفكرين وهو هومي بابا. والمفهوم "يشير عادةً إلى خلق أشكال تثاقفية جديدة داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه الاستعمار". ويمكن توسيع نطاق هذا المفهوم خارج الفضاء الذي خلقه الاستعمار، أي في الفضاءات الاجتماعية ـ الثقافية ذات الطبيعة المتنوعة، إلا أن التجربة الاستعمارية أعطت المثال الواقعي المجسد لعملية الهجنة. والتي بمقتضاها تتحدد العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بالاعتماد المتبادل بعضهما على بعض حتى في صياغة هويتيهما على الرغم من الهيمنة التي تمارسها السلطة الاستعمارية بعلاقتها بتابعها المستعمَر. حيث يحصل نوع من التجاذب يكوِّن ما يسميه بابا بالفضاء الثالث للتعبير، حيث لن يكون التنوع الثقافي عبارة عن قارة غرائبية مقسمة بين الثقافات بحدود صارمة.. يقول بابا:
"مما له مغزى أن القدرات الإنتاجية لهذا الفضاء الثالث لها أصل كولونيالي أو ما بعد كولونيالي. لأن الرغبة في النزول إلى هذه الأرض الغريبة... ربما تفتح الطريق لتصوّر ثقافة عالمية، مبنية ليس على غرائبية التعددية الثقافية أو تعددية الثقافات، ولكن على نقش هجنة الثقافة والتمفصل حولها".
يصوغ هومي بابا جهازه المفاهيمي عند تلك التخوم التي وصلتها العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بعد تجربة مثيرة، ثرية، مريرة، ومكلفة جداً، والتي شارفت على نقطة اللاعودة.. إلى استحالة استحصال الماضي ثانية كما كان، أو التبجح باستمرار النقاء، وهنا ينثر مفاهيمه الصدامية ( الفرجات الخلالية، الهجنة البينية، موقع الثقافة، الترجمة الثقافية، منظور الهامش.. الخ ).
إن فعل الإزاحة حتى وإن صدر عن سلطة غاية في الاقتدار كالسلطة الاستعمارية، لن يكون كلياً، قاطعاً، بتأثير ذي بعد واحد. فالنقش لن يزيل الأصل، وربما يتشبع به.. ما سيحدث هو مفعول هجنة لن يخرج منه طرفا التجاذب سالمين ولا بريئين وقد فقدا نقاوتهما ( إن كانت ثمة نقاوة أساساً، وهو أمر مشكوك به إلى حد بعيد ).. إن شيئاً آخر يكون قد حل في نهاية المطاف. ومن المستحيل عودة أي من الطرفين، بعد ما جرى، إلى ما قبل نقطة الشروع.
يورد مايك كرانغ هذا المقطع الطريف للكاتب الإنجليزي ستيوارت هال:
"ماذا يعرف المرء عن الشخص الإنجليزي ما عدا أنه لا يستطيع أن يتم يومه دون فنجان من الشاي؟ من أين أتى الشاي؟ من سيلون ـ سريلانكا، الهند. ذلك هو التاريخ الخارجي الذي هو التاريخ الداخلي للإنجليزيين، ليس هناك تاريخ إنجليزي دون ذلك التاريخ". وهو الشيء ذاته الذي يدلي به هومي بابا ولكن بجدية وبلاغة أكبر وأعقد وأعمق:
"إن الهجنة الكولونيالية ليست مشكلة جينالوجيا أو هوية بين ثقافتين مختلفتين بحيث يمكن حلها باعتبارها قضية نسبية ثقافية. الهجنة إشكالية تمثيل وتفريد كولونياليين تقلب مفاعيل الإنكار الاستعماري بحيث تدخل المعارف الأخرى ( المنكَرَة ) على الخطاب المسيطر وتُغرِّب أساس سلطته، ألا وهو قواعد الإدراك أو المعرفة الخاصة به. ولابد من التأكيد، من جديد، على أن ما يعود ليغدو معترَفاً به كضرب من السلطات المضادة لا يقتصر على محتوى المعارف المنكَرَة ( سواءً كانت أشكالاً من الآخرية الثقافية أو تقاليد الغدر الاستعماري )".
ارتبط مفهوم الهوية بمفهوم الهجنة ليس بالتناظر وإنما بصيغة طباق. فنظرية الهجنة لا ترى "الهوية كمؤشر، أو كسمة مشتركة بين الجماعات، بل كممارسة يتغير معناها وأثرها باستمرار مع تغير سياقها". لكنها ـ أي نظرية الهجنة ـ لم تنجُ هي الأخرى من انتقادات. ربما بسبب عدم اكتمال جهازها المفهومي، وهلامية حدودها النظرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس