الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحوار : حكاية كلمة مع الاستبداد

احمد الحاج علي

2006 / 2 / 4
المجتمع المدني


تفتقت عبقرية المستعمر البلجيكي الذي كان يستعمر الكونغو في القرن الماضي . تفتقت عبقريته عن اختراع شيطاني عجيب , ألا وهو قفل حديدي يقفل به الفم لمنعه من الكلام , وقد صنع خصيصاً لنشطاء الحركة الكونغولية للتحرر الوطني , وهذا القفل المعدني يشبه إلى حد بعيد الخزام الفضي الذي تزين به النساء انوفهن في وسط وشمال سوريا.
وكان المستعمر البلجيكي لا يخشى سلاح الحركة الكونغولية الفردي والبسيط , بقدر ما يخشى قدرة هذه الحركة على التواصل مع شعبها عن طريق الحوار .
كانت الحركة الوطنية تفضح أساليب المستعمر , وتعريها , وتفشلها , وترد عليها .
هذا الخبر بقي محفوراً في ذاكرتي من أوائل السبعينيات من القرن الماضي , وكنت ومازلت أردد بيني وبين نفسي كم تملك هذه المفردة ( الحوار ) من قدرة على إخافة الظالم , وإرعابه , وإقلاقه , إلى درجة التفكير بصنع أقفال حديدية ؟
ألا تكفي طوابير العسكر المدججين بالكره والسلاح , المعززين بالسجون وخبراء التعذيب وأدواته حتى يفكروا بصنع أقفال حديدية ؟
ألا تكفي طوابير المخبرين والمتعاونين مع المحتل لشل قدرات المقاومة حتى يفكروا بصنع أقفال يقفلوها متى أرادوا ويفتحوها متى أرادوا ؟
هل تملك هذه المفردة قوة سحرية تحول الكائن البشري إلى إنسان , مدرك , واعٍ , مشارك في الهم الوطني والإنساني و بدونها يبقى جاهلاً مجهلاً ؟
لماذا كل هذا الإصرار على قتل الحوار من قبل أنظمة الاستعباد والاستبداد ؟ ولم كل هذه الأموال المهدورة من اجل إلغاء مفردة واحدة هي ( الحوار ) .
إن قضية الاستعباد والاستبداد واحدة في كل مكان وحيث وجدا فإن هاجسهم هو قتل الحوار , لأنه هو وحده الطاقة الكامنة في الأمة , لا بل هو روح الأمة , وبإلغائه يتم قتل الأمة , والدفاع عن الحوار هو الدفاع عن الأمة والوطن
إن امة بدون حوار , هي امة بدون السنة , وبدون حاضر و وبدون مستقبل , ولا توجد وسيلة لقتل الأمة و الوطن أفضل من قتل الحوار .
ترى ما سر هذه المفردة ( الحوار ) , دعونا نتتبع معانيِ هذه المفردة في القاموس وفي كتب اللغة لنرى معاً , أين يكمن سر قوتها و قدرتها وتألقها , ففي لسان العرب نجد .
حَوَرَ : الحَوْرُ بفتح الحاء وتسكين الواو وضم الراء وتعني : الرجوع عن الشيء والى الشيء وعنه حوراً ومحاراً ومحارة
وحؤوراً : " رجع عنه واليه " . ومع اعتذاري لعلماء اللغة لم افهم مما ورد شيئاً , وهو إن دلّ على أمر ما فإنما يدل على أن كلمة الحوار تعرضت لتغيير معانيها عبر قرون الاستبداد العربي , وتم تجريم هذه المفردة عبر قرون خلت , بإهمال استخدامها ليتم في النهاية تشويش معناها , وإخفاء دلالاتها , وتجاهلها , ومن ثم الغرق في بحر اللغة الواسع , فللأمس القريب كان الحوار نوعا من انتهاك المقدس , وما في داخلك يجب أن يبقى في داخلك . ولتأبيد حالة الاستبداد العربي , تم تجنيد الآلاف المؤلفة من الواشين , وكتبة التقارير الأمنية , والآلاف المؤلفة من المنافقين والمجهلين , مهمتهم إحصاء وتدوين كل كلمة تخص تطوير الشأن العام , فكيف للحوار أن يزدهر وينمو في مثل هذه التربة العطنة العفنة الخامرة ؟ وكيف لا ينزو الحوار , وينكمش , ويتراجع , وهو الأكثر – بمعناه – حركة والأكثر فعلاً و الأكثر مقدرة على صنع التحضر , والانتقال بالناس من الحالة البشرية العادية إلى الحالة الإنسانية الغنية بالحب , القائمة أصلاً على الحوار وحق الاختلاف , والتباين في الرأي والموقف , وللتدليل على الغنى الكامن في الحوار , أحيلكم إلى اللغة ذاتها , فحروف اللغة العربية لهل دلالاتها , وحرف الحاء على حد علمي , يدل في اللغة العربية على الحياة , ومفردة الحوار تبدأ بحرف الحاء ( حَوَرَ ) ولتوضيح دلالات الحوار يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور مشيل اسحق "المعاني الفلسفية في لسان العرب " لنقرأ في الصفحة 41 مايلي :"التحوير يعني التبييض فقط وذلك لان التبييض نتيجة الحور والحوارى بمعنى الدقيق الأبيض , كونه روجع في تنقيته , حتى صار نقيا خالصاً " والحوارى بمعنى الناصع وأصله : الشيء الخالص " وهو من معنى النقاء " وفي وسط وشمال سورية كان حتى الستينات من القرن الماضي , يجري في تلك المناطق طقساً سنوياً يتم فيه التحوير, أي تبيض الجدران الخارجية للدور بالحوارى وجدران البيوت الداخلية بالحوارى النقية , الأكثر بياضاً , أي تجديد ما صار بالياً ولا ينصلح إلا بتحويره .
وقد سمي أصحاب المسيح بالحواريين لأنهم انقياء من العيوب واخلصوا للمسيح , وسميت الحورية بهذا الاسم , لإبداع تكوينها , ولأنها خالية من العيوب , صافية ونقية كالحوارى .
وإذن يمكننا القول أن " الحوار تعبير عن أفكار تدور حول أمر لاكتشاف الخطأ والصواب فيه " .
وبذلك " نكون قد عدنا إلى معنى التنقية ثانية , وهي تنقية عقلية ، ومنها دعي العقل بالاحور . فالاحور من معنى غربلة الأفكار وتنقيتها بالترداد العقلي عليها , والدوران حولها ، لانتزاع الخطأ منها " .
إذن الحوار ينقل الأمة من حال إلى حال آخر , ينقلها من حالة العطالة والتخلف والجهل والجمود – وهي الشوائب قبل التنقية – إلى الحالة الإنسانية القائمة على الحركة والنقاء .
والحوار على المستوى الفردي , يزيل ما علق بالعقل من نفاق , أو أحقاد , أو ضغائن , أو خوف , أو جهل , أو تعصب عبر القرون الفائتة , ويضعنا في قلب التسامح والتحضر , بعيداً عن العقلية العشائرية , أو القبلية , أو المذهبية , أوالعنصرية , وقريباً من التعقل والفعل .
إن الحوار يمحو النفاق والكذب , ويعزز شخصية الفرد .
لقد تم تعطيل الحوار في الأمة , عبر أكثر من عشرة قرون , وتم إحلال الجدال بالقوة بدلاً من الحوار وما نراه الآن في كثير من الندوات على شاشات التلفزة , أو في بعض المنتديات, أو في الحوار بين شخصين , ما هو إلا جدال , تعلو فيه الأصوات ويتعزز الحقد بين المتجادلين , ويتم تجريم الأخر أو تكفيره و تسفيه رأيه و تخوينه أو الدعوة إلى قتله , وهو ما قصده معنى الجدال , ففي المعجم الوسيط نجد .
"جَدَلَ الرجل : صرعه . وجَدَلَهُ . غلبه في الجدل . وجَدَلَ جدلاً : اشتدت خصومته . وجادله مجادلةً , وجدلاً : ناقشه وخاصمه . وتجادلا في الأمر : تخاصما فيه . والمجادلة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم "
ولكن لماذا ساد الجدال عبر كل تلك القرون ؟
وما هي الأسباب التي أدت إلى الابتعاد عن الحوار ؟
إن أعدى أعداء الحوار هو الاستبداد , وأول ما يفعله الاستبداد هو
1- تعميم الخوف بقوننته – قانون الطوارئ – الأحكام العرفية – معاقبات جماعية – سجون تعذيب – استدعاءات أمنية – السيطرة الكاملة على الاتحادات والنقابات والروابط عبر تحريكها بالأوامر . وبدون الأوامر يستحيل أن تتحرك من تلقاء ذاتها مهما كانت الأخطار التي تتعرض لها الأوطان , إن الخوف يشل حركة الجميع حتى ازلام السلطة وتوابعها , لذالك فالحوار مع هذه الفئات يكاد يكون مستحيلاً , فالخوف والمكاسب القليلة تبعدهم عن أية حوارات وتقربهم أكثر من حالة الجدال .
2- تعميم الجهل , تلجأ السلطات العربية إلى تصنيع أشخاص على مقاسات رغباتها لا تزيد ولا تنقص , تردد ما يملى عليها , وتنفذ ما تؤمر به , والأمثلة كثيرة طلائع – شبيبة – فتوة – اتحادات , وكما تتم السيطرة على وسائل الإعلام من مرئية . ومسموعة . وصحف . ومجلات . ومسرح . وسينما . وتسيطر على التعليم بجميع مراحله , و تحويل عقول أتباعها إلى نسخة كربونية عن أوامرها تردد ما يملى عليها , وتتبع رقابة إعلامية صارمة على الأفكار وتمنع إصدار الصف والمجلات والمنتديات , إلا ما وافق توجهاتها وما يخدم استمرار نهجها وتسلطها و فسادها , وتراقب وتلاحق وتعاقب كل حراك ثقافي لا ينضو تحت خيمتها .
إن الجدال يزيد النفاق نفاقاً والتملق تملقاً والكذب كذباً .
ونحن اليوم أحوج من أي وقت مضى للحوار , فالأخطار الخارجية , تحيط بنا من كل جانب والأخطار الداخلية المتمثلة في منتجي الاستبداد والفساد تحاول خنق كل حراك وطني , فلا مهرب أمامنا ولا حل لأزماتنا السياسية والاجتماعية والثقافية إلا بالحوار .
إن مراجعة سريعة لتاريخ نهوض الأمم – في العصر الحديث على الأقل – , يدلنا على أن الحوار المقرون بالحرية , هو الخطوة الأولى لبناء الأوطان وتحصينها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قائد العمليات العسكرية في سوريا يتوعد بنشر أسماء متورطين بتع


.. لماذا قرر الدفاع المدني إنهاء البحث عن معتقلين بسجن صيدنايا؟




.. رابطة معتقلي صيدنايا: لا وجود لطوابق تحت السجن وهو خالٍ تمام


.. الصحافي زياد الريس: نظام الأسد أحرق ملفات المعتقلين في سجن ص




.. واشنطن تتهم اثنين من كبار المسؤولين بالمخابرات في عهد الأسد