الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة النخبة في العراق .. وما يعترضها من واقع .

حامد حمودي عباس

2018 / 10 / 20
المجتمع المدني


ثمة من يعارض فكرة ( النخبة ) في الحياة الاجتماعية وعلى كافة مستوياتها ، وأنا منهم ، تحت زعم ان هذه الفكرة لا تستجيب الى مقتضيات الواقع المعاش ، وبالتالي فان من يسمون بالنخبة يعيشون ظروف الاستعلاء على شرائح المجتمع الاخرى ، بحيث تبدو نشاطاتهم حبيسة صالونات معزولة ، يتخاطبون فيما بينهم ، يختلفون ويتفقون من خلال حوارية ضمن دائرة مغلقة ، لا صلة بينها وبين عموم الجماهير المعدمة ، وليس لها أي فعل مؤثر لإزاحة الحيف عنها ، ولا تساهم في قيادتها سواء بثورة مسلحة ، او مسالمة ، ضد الانظمة المستبدة .
تقول الموسوعة الحرة ( الوكيبيديا ) بان ( كارل ماركس قد اسهم في التعرض لمفهوم النخبة باعتباره مفهوما يفيد في عملية التحليل السياسي والاجتماعي انطلاقا من حقيقة القلة الحاكمه والاكثرية المحكومه ) .. ومن هذا المنطلق فقد أكد عالم الاجتماع الايطالي ولفريد باريتو ( 1848 – 1923 ) بان نظرية النخبة تؤسس لمعرفة ان هناك طبقة ، وان كانت قليله ، من المتفوقين ، لهم القدرة على ادارة السلطة دون الحاجة الى عون الجماهير الاكثر عدداً ، غير انها لا تتمتع بالذكاء المطلوب ، ولا تحسن في النهاية غير ان تستهلك ، وتنتظر ، وتنام على وسادة ألامال الموعودة .
ومع انني لم افلح ، جراء عدم الشروع في الغوص الى اعماق اكثر بعداً في الفكر الماركسي المتعلق بنظرية النخبة ، لكي ادرك هل ان كارل ماركس قد توقف وبشكل اكثر تركيزا على احد اذرع ما يسمى بالنخبة وهو الذراع المتعلق بالثقافه ؟ ، بمعنى ان نخبة ثقافية هي ايضا تقع ضمن التركيبة القليلة العدد من المهيمنين على الشأن الاجتماعي في بلادنا ، لم يحاولوا اختراق شرنقة تجمعهم لينطلقوا الى رحاب اوسع ، واكثر صلة بالجماهير .
مع هذا ، فانا ارى ومن وجهة نظر خاصة ، تعتمد اولا على معايشة متواصلة مع ( نخبة ) من حملة الفكر والفن عموما في بلادنا ، ومن خلال حضور العديد من المنتديات الثقافية المحلية ، بان اغلب تلك المنتديات والنشاطات الموسومة بالاكاديمية البحتة ، لا تستطيع الخروج من شرنقة تبادل وسائل التعبير الخاص ، ولم اجد هناك حضور للمتلقي الشعبي في تلك اللقاءات .. وقد حاولت عند حضوري لندوة كان موضوعها مسرح الشارع ، ادارها مختصون في هذا المجال ، ان افهم من خلال مداخلة سريعة معهم ، هل هناك من متلقي يرى ويسمع عروض هذا النوع من المسرح ؟ ، وعندما لم يجدوا جوابا مقنعا لهذا التساؤل ، تجاوزوه ، ليجيبوا على مداخلة أخرى .
لقد اصبحت عملية مناقشة انعزالية النخب بشتى انواعها عن مجمل حركة الجماهير العفوية ، خلال جميع مراحل زحفها لتوفير لقمة العيش ، مفزعة لمن ينتمي لهذه النخب .. بحيث نجد ان المحسوبين على تلك التجمعات المحورية بين عدد ممن اسماهم المفكر ( ولفريد باليتو ) بالمتفوقين ، أو انهم ممن يشعرون من طرف واحد بالتفوق ، نجدهم في حالة استفزاز لا شعوري ، عندما تعترضه واحدة من ملامح النقد لعمل قام به في مجال من مجالات التخصص العلمي او الفني ، او سواهما من انواع العطاء المتميز .. فالنخب لا تخطيء ، وليس من المعقول ان ينبري احد من صعاليك المجتمع غير الواعي لتوجيه ملاحظة ما لمحاضرة يتبرع بها المتفوق ، مهما كانت تلك الملاحظة محملة بسمات الحقيقة ..
من وجهة نظري، فان النخب السياسية الحاكمة ، هي ليست موضعاً للنقاش ، باعتبارها لم تكن نخبا قبل تسلمها السلطة .. وان تمترسها خلف ستار التميز الكاذب ، لم يكن نتيجة ابداع موسوم بالندرة ، وانما هو آت من فرض هالة من الاحترام الزائف ، تبديه الجماهير لها بفعل عوامل الخوف من البطش والتنكيل لا غير .. كما ان النخب العلمية هي الاخرى غير محسوبة على فحوى هذا الجدل الآخذ في التصاعد بهدف عزل المتحذلقين ممن يحاولون التسلق من فوق جدار عزلتهم ، واقصد بهم ممتهني الثقافة المدعومة بأسس ضعف ادراك الجماهير المعدمة ، لفهم مفردات غير مألوفة ، يتفنن هؤلاء باصطناعها ليكونوا في مأمن من تبعات النقد ، حتى من قبل القادرين على التصدي لهم بواقع دحض الحجة بالحجة .
انه لمن دواعي الشعور بالاسف الشديد ، حين تجري الدعوة ، وعبر وسائل شتى ، لحضور ندوة ثقافية عامة ، يتبارى خلالها الحاضرون من ( النخبة ) لمعالجة موضوع الحياد الايجابي ، ذلك الحياد الذي اصبح مستهلكاً وغائباً تماماً عن المسرح السياسي والثقافي لجميع الامم .. والاكثر اسفاً هو اختلاط الاصوات النخبوية المنطلقة من مكبرات الصوت ، مع اصوات الباعة المتجولين من الشباب الآتية من فوق الرصيف المحاذي لمكان الندوة ، وهم يتصارعون من اجل البقاء ، ويقاومون بضراوة عوالم الجوع والحرمان .
لقد كانت لي جولة تصديت من خلالها الى العديد ممن بنيت لهم صروح من التقديس بدعوى كونهم من حملة الشهادات العليا ، فضلا عن انهم كانوا في فترة ما من ( النخبة ) في صفوف اليسار العراقي ، ولذا فانهم ، وباعتبار مناصريهم ، لا يحق لاحد مهما بلغت درجات وعيه للواقع العراقي المأزوم بشتى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومنذ زمن بعيد ، لايحق له حتى الرد عليهم ولو بهدف الحوار المجرد لا غير .. وحين وقفت قبالة احدهم عندما طالب المرأة العراقية بان تكثف من دورها المدني انسجاما مع حقها في الحياة الكريمة ، لأذكره بان واقع المرأة في العراق لا يتحمل ان نطالبها بتفعيل دورها ضمن نشاطات منظمات المجتمع المدني ، قبل ان نسعف الملايين من النساء العالقات تحت اشعة الشمس ، وهن يمارسن العمل في محارق معامل الطابوق وفي حقول استخراج الملح ، او تلكن اللائي تدمر كياناتهن ظروف انتشار الطلاق ، ومن اصبحت ارصفة الشوارع تعج بمن يشحذن منهن لقمة العيش منذ بزوغ الشمس حتى الغروب .. وعندما طالبت بان تتوقف تلك الديباجات الفارغة بحجة شحذ الهمم لصنع المستقبل المنشود للاطفال ، قفزا فوق حقيقة مهولة الحجم والتاثير ، حينما تقوم مافيات الجريمة بخطفهم مجاميع وفرادى لتقطع اوصالهم وتبيعها في اسواق الخردة خارج الحدود ، في حين يطالب احد المحسوبين على مثقفي النخبة ، بتوفير روضات للاطفال تتمتع بامتلاك برامج متقدمة في اصول التربية والتعليم .. عندما تجرأت وساقتني العزة بالنفس ، للتذكير بان هناك بعدا شاسعا جدا بين ما تتغنى به منتديات يشاع عنها بانها ( ثقافية ) لا تمتلك ابعد من يافطات الاعلان عنها لتموت وتختفي حال انطفاء الانوار في قاعات انعقادها ، وبين ما تعيشه الجماهير المسحوقة ، اشاح البعض من اصحاب الترف الفكري عني وجوههم حتى بدون رد لائق .. وكانت الطامة الكبرى هي عندما زعمت ، وانا على حق ، بان الطبقة العاملة العراقية تراجعت اليوم عن دورها التاريخي ، وذلك بسبب ما اصاب المجتمع العراقي من انكسارات حادة جعلت من التوصيفات المالوفة للتوزيع الطبقي في حالة استثنائية ، جعلته فاقداً للشروط الموضوعية التي حددتها الماركسية اللينينية ، ازاحتني مشيئة ( النخبة ) لتلقي بي خارج سربها ، ومنعت عني حقوق النشر في اكثر من موقع مما تمتلكه هي فقط ، في حين بقيت موجودا في عوالم رحبة لا تطالبني بامتلاك قدرة الببغاء على الترديد ، لا التفنيد .
ان الثقافة المحاصرة بين حدود فضاءات النخب الضيقة ، وعدم تقبلها لشم نسائم الفضاء العام خارج حدود هذا الحصار ، اضحت تتراجع اكثر فاكثر ، لتكون داخل زنازين تقوم النخب ذاتها بالتأسيس لها واكمال بنائها ، حريصة على ان تكون تلك الزنازين مفتقرة لوجود النوافذ والشبابيك ، فلا يراها احد من خارج المكان .. انها ثقافة تتجه ومع مرور الزمن ، الى ان تؤشر مجبرة وليست مختارة ، على جسدها المتهالك علامات فقدان الصلاحية بحكم التقادم ، وذلك لفقدها اهم مقومات وجودها ، الا وهو توفر المتلقي الشعبي لما تنتجه من اضطرابات فكرية لا تغني ولا تسمن .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط