الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البابا والإصلاح

صفوت سابا

2020 / 10 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من خلال مشاهداتي، أرى قداسة البابا تواضروس الثاني يدرك أن العصر الذي نعيش فيه مليء بتحديات جِسام تستلزم فكراً جديداً إن أرادنا التعامل بجدية مع مشاكل أبناء الكنيسة في عصرنا هذا. وعلى الكنيسة أن تتبنى ما يتوافق مع إيمانيتها وعقائدها من الآليات الفكرية المعاصرة لتواجه أزمات المسيحي المعاصر المصحوبة بعقلية جديدة وتغيرات سلوكية جديدة. فإن عزل قادة الكنيسة أنفسهم، ورفضوا - عن عمد وإرادة – مواجهة هذه الأزمات الجديدة بآليات العصر الجديدة، أقول إن فعلوا هذا فإنهم بذلك يعطون لمن يُتْقِنُون فنون هذه الآليات فرصة السيطرة الفكرية على أولاد الكنيسة.

ومن وجهة نظري، التحدي الأعظم الذي يواجه قداسة البابا تواضروس هو كيفية تَبَنِّي مثل هذه الآليات للتعامل مع ما هو متغير في حياة أبناء الكنيسة دون تشويه الإيمان المسيحي أو تفريغ الكنيسة من هويتها القبطية بكل غناها وتفردها. بالإضافة فالبابا محاط بطغمات من الأساقفة الذين يؤسسون تعاليمهم على محاربة التفكير، وهَرْطَقَة كل ما هو تنويري، والترويج لكل فكر جامد على أنه تراث الكنيسة، والزعم بأن كل ما هو قديم داخل الكنيسة هو تعليم آبائي يجب الحفاظ عليه والاحتفاظ به. وبدلاً من أن يتعاونوا مع قداسة البابا لمقابلة هذا التحدي، نراهم يحاربونه ويُسَخِّفُون من برنامجه الإصلاحي التنويري. والذي يزيد الأمر تعقيداً أن الكثيرين ممن يُحْسَبُون على التنويرين لا يدركون أبعاد الحياة الكنسية القبطية، فغاب في منطقهم اعتبارات كثيرة لا يُقَدَّر قيمتها إلا من عاش وتذوق جمال الكنيسة منذ نعومة أظافره. وبهذا يدعم هؤلاء المستنيرون بدون قصد الادعاءات التي يروج لها هؤلاء الأساقفة.

وقبول هذا التحدي الإصلاحي التنويري يتطلب من قداسة البابا تغيير الرؤية العامة، والمنهجية الفكرية داخل كواليس الكنيسة حتى تستطيع أن تدخل إلى العصر الجديد و آلياته من خلال صروحها التعليمية: مدارس التربية الكنسية كصرح لتعليم النَّشْء وضمان المستقبل الفكري للأجيال القادمة، الرهبنة كمركز لتعليم وتخريج الأساقفة قادة الأبروشيات والمجمع المقدس، مؤسسات إعداد الكهنة الذين يقدمون استشارات نفسية كجزءٍ من خدمتهم ودورهم الرعوي، والإعلام القبطي الذي مازال يحبو بين مصاف الهيئات الإعلامية ذات الحرفية والمهنية العالية. والحقيقية أن إعداد كل هذه الصروح التعليمية وإعدادها لكيفية ومدى تَقَبّل هذا التحول يحتاج إلى دراسات متخصصة واسعة.

وقد تبلورت عبقرية المتنيح القديس حبيب جرجس وقدراته على الإصلاح والتغير في إدراكه لأن مدارس الأحد هي أهم ما تملكه الكنيسة نحو تعليم وتنوير عقول أولادها، والمضي بهم نحو العالم الجديد بكل آلياته دون أن تفقد هويتها. فقدرات المفكر على الإصلاح والتغيير تتضح في اللحظات الفاصلة من تاريخه الفكري، تلك التي لا ُتَقاس بكم الكتابات التي أصدرها أو المصطلحات التي أدخلها إلى المجتمع بل بالتحول المنهجي الذي أحدثه لفكر المجتمع وتنويره من خلال طرح طرق جديدة واضحة جريئة للإجابة على الإشكاليات القديمة التي مازالت تهم المجتمع دون تدوير لنفس الإجابات القديمة. فإذا كان لدينا ثوباً قديماً به خرق، لا يلجأ المصلح لأن يضع رُقْعَةً من قماش جديدة على الْخَرْقِ، لأَنَّ رُقْعَةً القماش الجديد تأْخذ من الثوب القديم، فيصير الْخَرْقُ أَرْدَأَ. لكن المصلح يأتي بآلة جديدة – تمثل رؤية جديدة ومنهجية جديدة - يعامل بها الثوب فيُخْرَج لنا ثوباً كاملاً دون خرق أو ضعف في مادة القماش. فبدلاً من أن يستجمع الأفكار ذات التقليد والسلطة الجَمْعية التي لها صفة القداسة في قلوب التقليدين، يأتي المصلح بمنهج جديد ورؤية جديدة تغير من نظرة المجتمع للفكر الجامد الثقيل نتاج الآلة العتيقة، دون أن يحبس نفسه في جدلية أفكار وقواعد المنهج القديم.

والتنوير بوجه عام هو امتلاك وإعْمَال النظرة العقلانية - التي تنتج عن المعرفة في تحليل معطيات الإشكاليات المطروحة - والمبنية على قواعد المنطق الإنساني الصائب، واحترام العلم، وتثمين الإبداع الشخصي. والتنوير يهدف إلى خير الإنسان وتنميته وصيانة حقوقه في كل المجالات التي تخص حياته.

وقد ظهر عصر التنوير كحركة فلسفية في القرن الثامن عشر، ثم صار فيما بعد الدافع الرئيسي لدحض المنهجية القديمة التي ورثها العالم عن الفلسفة اليونانية، ثم صار عنصراً مشتركاً في رؤية كل مجدد في أي عصر لاحق لهذا الزمن. وقد أصبح التنوير مرادفا للتفكير العقلاني والسلوك المتحضر للإنسان المثقف في كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والتعليمية وغيرها. والتنوير ليس داعياً لهدم الإيمان أو محاربة الله بل يدعو إلى تقويض المفهوم التقليدي لحدود الفكر الإنساني، كما يدعو إلى التحول المنهجي والآلي للفكر الإنساني، خاصاً في مجالات حقوق الإنسان ومكانة العلم والعقل والفلسفة والمنطق في حياته.

فالمتدين التنويري والمستنير يترفع عن أن يهدم قيمة أخلاقية أو إنسانية أو علمية في أثناء دفاعه عن عقائده أو إيمانه حتى وأن أقر كتابه المقدس بهدمها. جاليليو مثلاً دافع في تحضر وتواضع العالم عن نظرة العلم لحركة الأرض حول الشمس بالرغم من اختلافه مع أفكار وتقارير رجال الدين حول آيات الكتاب المقدس التي تتعلق بهذا الموضوع.

والتنويري يسعى للمصالحة بين الفكر والقيم والأخلاق الإنسانية المتفق عليها عالميا من جهة ومنهجية التدين من جهة أخرى، فمثلاً لا يقبل المستنير أن يعامل المرأة بآليات المجتمع الذكوري التي تُنْقِص من قدرها حتى وإن كان لدية نصاً مقدساً يمكن فهمه أو تأويله إلى ذلك.

كما أن المتدين المستنير يتعامل مع محيط واقعه بما يتمشى مع أهداف خلق الله للإنسان والكون. فهو مثلاً لا يتعامل مع الكوارث الطبيعية والأمراض والأوبئة وما شابه على أنها عقاب أو غضب إلهي على الإنسان، لأنه يوقن أن الله كلي الصلاح قد خلق الإنسان وجدده وأعطاه فرصة للتوبة وسوف يجازيه عن أعماله في اليوم الآخر.

والمستنير يراعي حق الإنسان وحرمته حتى وإن لم ينص عليها دينه أو لم تتعرض له شريعته. فلا يمكن لمستنيرٍ أن يفهم آية في كتابه المقدس على أنها دعوة لإباحة دماء من لا يشاركونه هذا الإيمان.

والمتدين المستنير يسلك برقي، فلا يشتم ولا يُقَبّح ولا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع، ولا يظلم أحداً حتى وإن كان لديه مبررات دينية تجيز له أن يفعل أي من هذه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد