الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في قضايا العالم القروي

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2021 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- الوادي وحبة الطباشير

حينما كان صغيرا، كان يجلس فوق الصخرة المطلة على الوادي و هو يراقب من الأعلى قطعان الماعز التي تنحو نحو الأحراش البعيدة، وبينما كان يتكئ على الكتلة الصخرية التي تآكلت بفعل عوادي الزمن، خطر على باله سؤال وهو يرمي بنظرته نحو الوادي الذي ينبثق من تلك التلال الجرداء التي تناطح السماء، ثم بدأ يقلب السؤال لعله يهتدي إلى الجواب. انتابته دهشة عظيمة وتعرق جسمه. وقف متأملا لبرهة من الزمن، واستجمع الولد قواه ومسك بكلتا يديه الأرض، وهب نحو جدته التي تسير أمام القطيع. كانت تضع عصاها على ظهرها وكانت تردد اللازمة التي دأبت الراعيات والرعاة على ترديدها دائما كلما توغلت القطعان بعيدا في المرعى: ( أت سكر هذيك الحرامية ). قفز الولد على جدته وعانقها بشدة، كان ذراعها الأيمن في المرعى وكان يرحل معها أينما رحلت، وبعد أن كانا يتناولان الفطور في البيت الريفي كانت تمسك جدكا (قطعة) من الخبز وتضعه في عبونها (صدرها)، وحين كان يداهمه الجوع في البراري، كانت جدته تناديه من وراء الأحراش تسلمه قطعة الخبز كهدية من السماء. كانت الجدة ترى في الولد المستقبل الذي كان يترعرع أمامها منذ أن فقدت ولدها محمد الذي هاجر إلى مدن أوروبا وترك في عهدتها هذا الصغير، إذ كانت تحذره دوما من التوغل وسط الأدغال العميقة، فهناك الذئاب التي كانت تفترس الخرفان الصغيرة كلما تأخرت عن موكب القطيع، والكلاب السائبة التي كانت تشتت القطيع إلى جزر معزولة وتفترس النعاج الشائخة. وكانت تخشى من فقدان حفيدها كما فقدت والده منذ أعوام...
**
كان الوادي ينهمر بغزارة، وجلست قرب خريره المنساب، وغدت تمسح وجهها بالمياه المنهمرة، وفي الجهة المقابلة، جلس الولد، ثم بادرها بسؤال: ( جدتي! من أين يأتي الوادي؟ )، أخذت العجوز عصاها ومسكتها من طرفيها وقالت : (من الله وإلى الله) .
**
في مدينة تقع بعيدا عن العالم القروي، وعلى مدرج من مدرجات الجامعة، لاح شاب ثلاثيني وسط كوكبة من الطلبة، كان يستمع بإمعان إلى محاضرة الأستاذ التي كان عنوانها: ( الكون بين الدين والعلم)، وبعد لحظة رفع أصبعه وسأل هذا السؤال: ( من أين أتى الكون؟)، مسك الأستاذ بحبة الطباشير وقال: (هكذا كان الكون والآن يشبه نفاخة منتفخة وغدا لا نعلم كيف سيكون ؟ )
**
عاش أحمد بين الشك والإيمان، كان كثير السؤال، فكلما تذكر قول جدته كلما تذكر الآية القرآنية التي تقول: (: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ .سورة الأنبياء:104)، وكلما تذكر قول أستاذه، تذكر قول سقراط: ( إن كل ما نعرفه هو أننا لا نعرف شيئا ) .
**
عندما كان أحمد يحس بجرعة الإيمان، كان يعود إلى الصخرة المشرفة على الوادي، إذ كان يجلس عليها مع جدته. وينظر إلى الوادي الهائم على وجهه من بعيد، وكلما راوده الشك واستبد به الجهل رجع إلى أحضان الكلية لتلقف العلم.
**
بعض مضي عشرين سنة على رحيل جدته، جاءته رسالة في المنام، إذ رأى عصا جدته تفتح الظرف وتقرأ: ( عزيزي أحمد! هل أنت هو أنت؟ ألا زلت على الإيمان نفسه ؟)، وختمت رسالتها: (لا تسأل كثيرا، فمهما سألنا، فنحن من الله وإلى الله ) وأضافت: ( الله هو السؤال والجواب في الوقت نفسه).
**
أيكون الكون كله مثل حبة طباشير؟ وهل الوادي كان مثل هذه الحبة ؟ ولكن من أين أتى هذا الوادي ؟ وإلى أين يمضي؟ عاد إلى الصخرة من جديد لعله يهتدي إلى فكرة تربط بين الوادي والجدة وحبة الطباشير.

2- العالم القروي والماركسية

لا يمكن لشاب ينحدر من العالم القروي درس علم الاجتماع إلا أن ينفتح على الماركسية، لأن هذه الأخيرة تجيبه عن مسألتين:
المسألة الأولى: وتتجلى هذه المسألة في أن البنية الاجتماعية الريفية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فهناك الفلاحون الكبار والأعيان، وهناك الفلاحون الصغار، وهناك كذلك السكان المهاجرون من المدن ويسمون محليا " ببيضاوة" الذين اشتروا الأرض من الفلاحين الصغار.
المسألة الثانية: تتمثل في أن الماركسية تسمح للشاب القروي بفهم التراتبية الموجودة بين العالمين المديني والقروي، إذ البورجوازية الكمبرادورية المالكة لجميع السلط والخاضعة للرأسمال العالمي تتخذ جميع قراراتها السياسية والاقتصادية والثقافية من داخل المدن. وكل مفاصل السلطتين الأيديولوجية والقمعية بتعبير ألتوسير موجودة في مراكز المدن. أما على هامش المدن، فهناك أحياء الصفيح والأحياء المعدمة التي تسكنها البروليتاريا الرثة، وتفتقد هذه الفئة للرأسمال الثقافي وتشتغل بقوتها العضلية في سبيل البقاء. ولا يختلف الفلاح الصغير عن البروليتاري الرث، إذ كلاهما لا يملكان الوعي الطبقي بتعبير كارل ماركس، ويفتقدان للرأسمال الثقافي بتعبير بورديو، فزادهما الثقافي غيبي وديني، ويتسم بالمحدودية، بالنظر إلى غياب التأطير السياسي والثقافي. إن سؤال ما العمل ؟ الذي طرحه فلاديمير لينين لا تشتغل عليه الأحزاب اليسارية والاشتراكية التي تعاني من أزمة كبيرة، وتتجلى في غياب التشبيب، الأزمة المالية، نفور الفلاحين والعمال والمثقفين من العمل الحزبي..
إن الماركسية تسمح للشاب القروي بفهم واقعه، لكنها لا تسمح له بتغييره، أو على الأقل بالمساهمة في تغييره، لأن الفلاحين الصغار والبروليتاريين الذين ينبغي عليهم أن يكونوا ماركسيين بحكم ظروفهم الاجتماعية ليسوا ماركسيين، ولا يعرفون الماركسية، والأدهى من ذلك هناك قياديون اشتراكيون لم يسبق لهم أن اطلعوا على كتاب واحد لماركس ويتحدثون باسم الاشتراكية وباسم الماركسية.
3- التحرر من القيود
إذا ما أراد الإنسان أن يحافظ على هدوئه، عليه ألا يغضب، وألا يترك العالم يضيق من حوله. وفي ذروة غضبه عليه أن يشعر باتساع العالم. لماذا أيها الإنسان تحمل ثقل هذا العالم كله و أنت لست سوى ذرة تائهة مصيرها العدم ؟
تحرر أيها الإنسان من غضبك، من سلطتك، ومن حبك ومن مالك، ...لماذا لا نصبح أناركيين؟ إن أملاكنا هي سبب شقائنا كما قالت المدرسة الرواقية، دعك أيها الإنسان من أملاكك وأثقالك إذا أردت أن تحقق سعادتك وتملك حريتك.

4- العبثية

ألا يحكم العبث هذه الحياة؟ يفارق رجل الحياة في الدوار، يذهب القرويون إلى منزل أسرته لأداء العزاء، ويغسل أقاربه جثثه ويلبسونه الكفن، ويذرفون الدموع عليه لحظة خروج جثثه من البيت، يدفنونه، ويتناول المعزون الكسكس، ويعودون أدراجهم إلى منازلهم، إنه مشهد يتكرر منذ قرون طويلة، لأي هدف تمضي الحياة؟ تدور الأرض وفي الصباح تشرق الشمس وتدور الأرض وتدور وفي المساء تغرب الشمس ...إنه مشهد يتكرر منذ ملايير السنين، سيمضي هذا الكون في التلاشي وتتبدد أجسادنا في أكوان أخرى، ربما قد تسري فيها الحياة، أو يلفها العدم. لا ندري من أين وإلى أين؟

5- لا نعرف نقطة البداية ولا نقطة النهاية

قال الفقيه لجموع المعزين بعد دفن الميت في المقبرة: (إنه يسأل الآن! إنه يسأل!! )، لم أسمع هسيسا ولا صوتا يأتي من باطن الأرض. لا أدري: لماذا كان ذلك الرجل حيا في الماضي والآن صار ميتا؟ ما الذي تغير؟ هل هناك روح في دواخلنا؟ وأين سافرت؟ وهل تعود إلى جسد الميت في قبره؟ إن المرء لا يمكن له سوى أن يستخلص أن البشر مجرد مسافرين في هذه الأكوان لا يعرفون نقطة البداية ولا نقطة الوصول . إننا لا نعرف أين كنا قبل الولادة ولا نعرف أين سنكون بعد الموت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: أين الضغط من أجل وقف الحرب ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي




.. علي بن تميم يوضح لشبكتنا الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن


.. بوتين يعزز أسطوله النووي.. أم الغواصات وطوربيد_القيامة في ال




.. حمّى الاحتجاجات الطلابية هل أنزلت أميركا عن عرش الحريات والد