الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
عصا الفقيه وعصا رئيس الأوركسترا
هادي معزوز
2022 / 2 / 18الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عصا الفقيه من العصيان ومعاقبة كل خارج عن تعاليمها الثابتة، شعارها الأبدي: "العصا لمن عصى." بينما لا تحمل عصا رئيس الأوركسترا دلالة العصا في حد ذاتها، إنها دال على هذا الذي بإمكانه أن يكون أو لا يكون، أو لنقل إنها دال بدون مدلول مطلق.. بين رمزية حضور الفقيه ورئيس الأوركسترا تشابه هدفه الاختلاف، واختلاف ينحو إلى درجة التطابق.. لعصا الفقيه شكل يحمل بين طياته طابع الرهبة بطولها وإمكاناتها الخارقة في التمدد والامتداد إلى أقصى الأقاصي، لذا انتظر منها كل شيء ما عدا لمسة حنونة جياشة. في حين أن عصا رئيس الأوركسترا الرقيقة لا تتعدى طولا محدودا لم ولن تعرف ما معنى العقاب، ولا ديدن لها ملؤه التجريح أو التنكيل ما عدا قدها وقوامها الممشوق الخفيف.
عصا الفقيه تجسيد لهذا الحضور الميتافيزيقي الذي يأبى النسيان، وهو للإشارة حضور يحمل دلالتين، الأول مباشر يتغذى الزمن من خلاله كي يمنح لنفسه الحضور وإن تميز بالغياب الرمزي، بينما الثاني حضور في الأذهان وإن غابت العصا كمادة. أما عصا رئيس الأوركسترا فتكتفي بحضورها إبان العرض ثم ينتهي دورها ودور حاملها ودور الذين يجلسون خلفه، ودور الذين يعزفون أمامه.. من ثمة فهي تجسيد لنسيان يخجل من الظهور باستمرار، ولعب بالتواري والاختفاء والتجاوز المستمرين. زمن عصا الفقيه زمن تقدمي إلا أنه يتقدم ليس بدافع التجديد، وإنما إخلاصا للأصل الأول أي بوسمه تكرارا لا ينقطع واحتفاظا لا يفسد، ونسخ مخلص للبداية الأولى. وهو يعدو بذلك زمنا ارتكاسيا وليس خلاقا. أما زمن عصا الموسيقار فهو زمن يتميز بالعقوق لكل أصل بما أنه إبداعا وليس إخلاصا، والدليل حركته التي تتغذى من العود الأبدي، أي أن زمنه ملؤه النسيان وليس التذكر، الاختلاف لا الهوية والغياب بدل الحضور.. لهذا فعصا الفقيه كرمز تعمل دونما انقطاع على حفظ المعنى الواحد، في حين أن عصا رئيس الأوركسترا تتغيى مراكمة ما تم تحصيله، إنها تجاوز ما بدأنا به، وقتل لما رأيناه طمعا في جديد يتجدد.
ميتافيزيقا عصا الفقيه تتجسد في ثنائية التذكر والنسيان، تلزم السكون والتربص حين التذكر، ثم تشرئب وتنقض عندما ينسى الطالب ما حفظه، تتوعد حين الانزياح والانفلات عن المركز المطلق، وتتحرك عندما يحدث فعل النسيان وذلك من أجل جعله تذكرا أو تحويله إلى تذكر للأصل الأول الذي لا يجب أن ينمحي. ومن ثمة فهي رد فعل تجاه النسيان باسم الضرب، ومكافأة للتذكر حد اعتباره وسام الاستحقاق الأول والأخير. حركة عصا الفقيه أفقية لها هدف وحيد نحو أذن الطالب بغرض تنبيهه على الرجوع الآني نحو الخط المرسوم سلفا..
عصا رئيس الأوركسترا تنفلت من كل ميتافيزيقا، وإن غامرنا وقلنا أنها لم تبرح أرضها أي أرض الميتافيزيقا، فإنها لن تكون إلا موسومة بالتنطع من التكرار، ولن تستحيل سوى إخلاصا للكذب والخطأ والخيانة، فهي تكذب عندما تضعنا في عالم ليس من الحقيقة بشيء، لكنه في نفس الوقت عالم واقعي مؤقتا. وهي تخطئ لحظة التدرب لكنها تسعى إلى التوسع والانتشار عبر الخطأ باعتباره أساس البحث عن النوتة المناسبة للسلم الموسيقى، وأخيرا أكاد أقول إن عصا رئيس الأوركسترا تخون لأنها تعطينا كل مرة شكلا ما، وتلعب كل مرة على إيقاع لا يشبه سابقه ولن يشبه لاحقه. حركة عصا رئيس الأوركسترا حركة لا مسار معين لها، لنقل إنها تشبه حركة الإلكترون حيث الفوضى لا النظام، والاحتمال بدل التكرار الدائم والمستمر، والتضليل في مقابل وهم الوضوح.
عصا الفقيه الغليظة الطويلة تتفنن في فعل القتل، تقتل بداية الابن لصالح الأب، أي أنها تخلص لما مضى بدل ما سيأتي، وتقتل الجسد تثنية حيث تعاقب الجسد فيما أخطأت فيه الذاكرة، علما أنها ليست من الجسد في شيء. ومن جانب آخر تقتل عصا الفقيه الحياة من خلال عملها على حفظ المعنى المعادي والمواجه للحياة، فالطالب الذي يحضر دوما ويقضي بياض يومه في الحفظ والاستذكار، خير بالنسبة لها من الطالب كثير الغياب ضعيف الذاكرة عنيد الاستقبال دون تساؤل. تقوم أولا بضربه وتهديده، ولما لا تجد مع هذا الحل مخرجا مبينا، تطرده من عندياتها شر طرد وتمنع عنه الولوج إلى مملكتها الحصينة بالأفكار البالية. إنها تجسيد حي للقدر والألم ووهم النعيم بما أن الحياة بالنسبة إليها جحيم. وفي المقابل منها، نقول إن عصا رئيس الأوركسترا الممشوقة الرقيقة تحتفل بالحياة من خلال منح الجسد حرية الرقص أو الغناء أو الانصات بتمعن لتلك السمفونيات الخالدة التي تمزج بين العنف والسكون، الرهبة والإقبال، والهروب فالإقدام. لهذا فهي تجسيد حي للعربدة والانسجام، أي بين روحين تختلفان تماما لكنهما في حاجة لبعضهما البعض، وهما روح أبولون باسم النور والتناسق والنظام، وروح ديونيزوس باسم التيه والهذيان والجنون. روحان تتحدان كي تمزجان بين الإيقاعين المرتفع والمنخفض كما يحدث مثلا في السمفونية الخامسة والتاسعة لبيتهوفن، كما السمفونية الرابعة لبراهمس. إنها إرادة قوة وقد تجسدت في ثوب أرستقراطي يقبل كل شيء باسم التراجيديا الكبرى للحياة، وينسى كل شيء بما أنه ابن اللحظة ولا شيء آخر.
إيقاع عصا الفقيه إيقاع رتيب لأنه مبني على الحفظ، أي حفظ المعنى الوحيد، بينما إيقاع عصا رئيس الأوركسترا إيقاع مشوق لأنه يقول كل شيء ثم يحملك إلى عالم آخر حيث تتبادل الأشياء أدوارها لتنتهي الحقيقة لصالح القيمة المؤقتة. عصا الفقيه أمر مفروض لا يناقش بتاتا، بينما عصا رئيس الأوركسترا اختيارية، تدعوك أولا دون أن تهتم بحضورك من غيابك إذ الأمر سيان لها، فإذا حضرت تحتفل معك لأن رمزها لا يخرج عن المتعة الاختيارية، وإذا غبت لا تعاتبك بل تنسى أنك غبت وتنسى أنها نسيت غيابك.. عصا الفقيه إخلاص للسماء أي الفكرة والمثل الأعلى الزهدي، في حين أن عصا رئيس الأوركسترا امتنان للأرض أي الوثن والاحتفال بما تقدمه لنا الحياة كما هو. دون تردد، دون رفض ودون تدمر يذكر.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. رابطة الأندية الأوروبية والاتحاد الأوروبي يمددان شراكتهما حت
.. ما تداعيات فشل إسرائيل في اغتيال المسؤول البازر بحزب الله وف
.. تشييع جنازة إسرائيليين قتلا إثر سقوط صاروخ في كريات شمونة
.. إسرائيل تعلن اعتراض طائرة مسيرة في محيط عسقلان بعد أن اخترقت
.. بوتين يصل تركمانستان للقاء بزشكيان لأول مرة وجهاً لوجه