الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب : خيانة المثقفين - -Het Verraad der Clercken-

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2023 / 6 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ."
(متّى 5: 13).
------------
بدايةً ، لابدّ من التنويه ، إلى أنّ الخيانة المقصودة هنا في متن هذا الكتاب، ليس بمعناها الوطني السياسي الصرف ، بل المعنى العقلي الفكري.
أو لنقل هي الحقيقة التي يُعبّر عنها ببساطة قول المُتعلّم سراً أو علانية :
كلُّ ما أقول وأفكر به ، أو أكتب حوله وأدعو له ، يدور حول جوهر ومبدأ وحيد وصحيح ، فحواه يقضي ، بأنّ قومي أفضل الاقوام ، و أمتي خير الامم ، و معتقدي أقوَم المعتقدات قاطبة ، ومذهبي أصدق المذاهب ، و طائفتي أحسن الطوائف ...
الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا Julien Benda ، هو فيلسوف ومفكر شُغل َطوال حياته بمسألة اعتبرها حساسة جدا وهامّة ، أرّقت ذهنه وأرهقت زمنه ، ألا وهي مسألة :
" خيانة رجال العلم أو المثقفين " فألف حولها كتاباً، ذاع صيته بذات الاسم ، وتمّ نشره في عام 1927.
انتقد فيه المواقف الدينية والقومية المتنافرة ، المعادية لنماء الفكر الانساني ، وهاجم خذلان النخبة المثقفة في عصره (من المثقفين ورجال الدين ) ، التي ابتليت بها أوروبا، في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
ثم شرح وجهة نظره في ضلال اهل الفكر (من النخب المثقفة و رجال دين ) الذين يعتبرون أنفسهم ملح الحقيقة وطلابها ، و طليعة الجماعة وقادتها ، و حماة أخلاق المجتمع ، أو النخب العارفة و المعبرة عن ضميره ،
ولذلك يقول عنهم - ممتعضاً - أنهم قد خانوا مُثلهم العليا ، وضحوا بالنزاهة الأخلاقية والفكرية ، لصالح الأجندات السياسية لبلدانهم حيناً ، أو من أجل مداهنة سوءآت أقوامهم ، والنفاق إلى طوائفهم و أديانهم أو أحزابهم أو و الخ ، حيناً آخر .
و أنهم خاصموا الوفاء لجوهر الحقيقة ، حينما التزموا بالحقائق التي تتوافق و المصالح الوطنية والدينية الضيّقة ، وحين قدموها عن المبادئ العالمية وقيم الانسانية السامية العليا.
في هذا الكتاب، دعا بيندا Julien Benda أصحاب الفكر إلى العودة إلى أخلاقيات المبادئ العامة المجردة ، محذراً إياهم ، من العواقب الخطيرة مسايرة جهالات العامة من الناس ، والنفاق لعواطف الرعاع من الجماهير ، والخلط بين السياسة والأخلاق.
كما حثّهم على إلتزام النزاهة الفكرية، و الصدق مع الذات على الدوام، والاخلاص للحق أيّما كانت الظروف.
و ناشدهم بالتركيز على القيم العالمية مثل العقلانية والتسامح والإنسانية ، والامتناع عن اتباع مسالك الغوغاء بقصد الشهرة أو الاكتفاء بالمصالح السياسية الضيقة الأفق.
لما في ذلك خدمة للجهل ، وخيانة لمسار البحث عن الحقيقة ونماء المعرفة.
مبيناً أن خيانة أهل الفكر تلك ، كانت من أهم الاسباب التي ساهمت في تفاقم الاضطرابات السياسية والاجتماعية، التي ابتليت بها أوروبا حتى الحرب العالمية الثانية وصعود الفاشية .
فيما يلي ، سأورد لكم تباعاً، بعضاً من اهم العبارات العميقة، التي وردت في متن هذا الكتاب ، و لا اجزم بالقطع ، أهميتها المطلقة بالضرورة ، أو صوابيتها التامة للجميع .
- "الرجل ليس سيئاً لأنه مشرع سيء ، لكنه يسن القانون لأنه سيء".
- "الأخلاقي الحقيقي يحكم على الأفعال ليس من خلال نتائجها ، ولكن من خلال المبادئ التي تمثلها".
- "من أخطر أنواع التعصب تعصب المثقفين ، لأنه لا يتعلق بالأفعال ، بل بالأقوال والأفكار".
- "كل ثقافة عليها واجب الدفاع عن نفسها ، ولكن ليس على حساب الأخلاق العالمية."
- "يجب على النخبة المثقفة أن تدرك أن الحقيقة ليست دائما شعبية وأنه من واجبهم معارضة آراء الجماهير".
- "عندما تفسد السياسة الأخلاق ، تختفي كل الفروق بين الصواب والخطأ". "في أوقات الأزمات ، على المثقفين الاعتماد على المبادئ المجردة والامتناع عن المصالح السياسية قصيرة المدى".
- "القومية هي العدو الأكبر للإنسانية الحقيقية".
- " إن أخطر أشكال التجربة ليس تجربة الشر ، بل تجربة الخير في خدمة الشر".
- "المثقف الحقيقي هو الشخص الذي لا يرتبط بأي مصلحة قومية أو عرقية أو دينية ويبقى مخلصًا للمبادئ العالمية للفكر والضمير الإنساني".
في تقديري ، فإن أقل ما تشير إليه الاقتباسات من الكتاب، إلى أن الإنسانية لديها نزعة متأصلة إلى الشر ، وأن الأخلاقي الحقيقي يحكم على الأفعال بالمبادئ التي يمثلونها ، وأن تعصب المفكرين ورجال الدين هو أحد أخطر أشكال التعصب.
قصارى القول :
باستثناء شرقنا المكلوم بخرافة الماضي التليد ، الذي مازال مشغولاً بإثبات أنه بيت الله ، و أبو التاريخ ، وأصل الحق و الحكمة، ومحضن العلم ، ومنبع الفضيلة ، وأساس سؤدد العالم ، و .. و ..الخ
فإن الافكار الواردة في كتاب "Het Verraad der Clercken" اثرت - ومازالت - على النقاش العالمي ، حول دور المثقفين في السياسة والحاجة إلى مبادئ عالمية في المجتمع الحديث.
وهذا الكتاب يكتسب أهميته - في زعمي - لكونه ذا صلة في السياق السياسي اليوم ، ويتناول بالنقد المستنفعات الفكرية ، التي ماتزال للأسف بعض النخب الثقافية المشرقية، تعتبرها اساس النهضة ، و ديدن الحق والتقدّم الاجتماعي ..
حيث لا تزال النخب المثقفة في مجتمعاتنا المريضة ، تعاني الهشاشة المعرفية، وتكابد ذات الهموم و المخاوف بشأن الانقسامات الخطرة ، التي تتسبب بها خيلاء الاستعلاء القومي و الديني .
وبالطبع هناك كثير منهم لا يوافق اعتقاد هذا الفيلسوف، بأن السياسة يمكن أن تفسد الأخلاق ، وأن المثقف الحقيقي يجب أن يظل مخلصًا دائماً للمبادئ العالمية الانسانية الكلية المجردة ، وأن يسعى قدر المستطاع لئلا يكون مغلولاً بأية مصلحة قومية أو عرقية أو دينية ، تهدد النزاهة الأخلاقية والعلمية لديه..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات