الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
14 تموز وتقرير المصير لكرد العراق
فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
2023 / 8 / 8
القضية الكردية
ليس الهدف من هذه المقالة الاستفاضة في موضوعيين كثر حولهما الجدل من مختلف الزوايا وهما التغيير السياسي في 14 تموز 1958 وقضية تقرير المصير لكرد العراق، وانما البحث في نقطة التلاقي بينهما من منظور الاجتماع السياسي لتبيين كيف كان هذا التغيير السياسي حدثاً فارقاً ومحطة مهمة في تاريخ العراق المعاصر خاصة لكرد العراق فيما يتعلق بحقهم في تقرير المصير.
وعلى الرغم من إن الذي أطاح بالنظام الملكي في 14 تموز 1958 كان الانقلاب العسكري الذي خطط له ونفذه الضباط الأحرار بقيادة عبد الكريم قاسم وعبر القيادة الميدانية لعبد السلام عارف، إلا أن هذا الانقلاب لم يكن ليحقق التغيير الهائل في بنية الدولة والمجتمع في العراق – بل وربما لم يكن حتى ليحدث – بدون الدعم والتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني التي مثلت تحالف سياسي بين أحزاب الشيوعي العراقي والوطني الديمقراطي والاستقلال والبعث العربي الاشتراكي. فقد كانت جميع أحزاب الجبهة على علم مسبق بموعد الانقلاب العسكري، فيما كان الحزب الشيوعي في حالة استنفار ليلة التحرك العسكري. كذلك كان محمد صديق شنشل – عضو اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني وممثل حزب الاستقلال فيها – هو الذي وفّر للضباط الاحرار دعم الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفيتي للحركة التغييرية عند انطلاقها، وهو أمر كان بغاية الأهمية بسبب الخشية من التدخل العسكري لأطراف حلف بغداد ضد عملية تغيير النظام الملكي في العراق (كتاب العراق لحنا بطاطو، الجزء الثالث).
ولعل من أوضح الأدلة على إن هذا التغيير السياسي لم يكن يخدم المصالح الضيقة للضباط الأحرار هو إن تمثيل الأحزاب السياسية المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني كان أكبر في الحكومة الأولى بعد نجاح الحركة التغييرية، من تمثيل الضباط الاحرار فيها (ولو كانت مناصب الضباط في الحكومة أكثر تأثيراً). كما خلا النظام الجمهوري الجديد من مجلس لقيادة الثورة يحتكر السلطة – على النمط المصري – إذ توّلى مجلس الوزراء السلطات التشريعية والتنفيذية للدولة بعد الغاء البرلمان وتشكيل مجلس السيادة للمصادقة على قرارات مجلس الوزراء التشريعية.
كذلك فان تبني النظام الجديد لبرنامج سياسي يلبي مطالب وطنية صارعت من أجلها أجيال من المجتمع العراقي ضد الطبقة الحاكمة، يدعم الرأي بأن انهاء النظام الملكي في 14 تموز كان عملية تغيير سياسي جذرية. فقد ناضل العراقيون بقوة لإنهاء الهيمنة البريطانية على الدولة العراقية منذ ثورة العشرين وبعدها عبر الحركة التغييرية في 1941 والاحتجاجات الشعبية في 1948 و1952 و1956. كما كان النواب الوطنيون منذ الثلاثينات يطالبون بإنهاء النظام الاقطاعي والتمييز القانوني ضد سكان الأرياف مع توفير السكن والخدمات الأساسية لمجموع العراقيين على اختلاف مناطقهم. أما جماهيرياً، فقد تضاعفت الجماهير التي تحركت لمساندة عملية التغيير من 100 ألف شخص يوم 14 تموز 1958 الى 300 ألف شخص في احتفالات الأول من أيار 1959.
إذن فمن منظور الاجتماع السياسي، يمكن عّد الحركة التغييرية في 14 تموز 1958 عملية تغيير سياسي جذرية عبّرت عن إرادة جماعية لقوى أساسية في المجتمع معارضة للسلطة حاولت معالجة أزمة تاريخية متفاقمة بسبب احتكار السلطة من قبل أقلية حاكمة لا ترضى بأي تنازل عن سلطتها ومصالحها. لقد كانت لقوى التغيير حينها تنوع مجتمعي وفئوي مع عمق طبقي وامتدادات في المجتمع المدني، إذ أسست رؤية وطنية جامعة عبر تحالفاتها السياسية ونتيجة التفاعل السياسي والتلاقح الأيديولوجي فيما بينها.
من هذا المنطلق المجتمعي الواسع – وليس عبر منظور الانقلاب العسكري الضيق – ينبغي التعامل مع التحول في هوية النظام السياسي العراقي من دولة عربية مع أقليات ثقافية في الحكم الملكي، الى دولة عربية-كردية على أساس الشراكة في الوطن الواحد في الحكم الجمهوري بعد الحركة التغييرية في 14 تموز 1958. ولعل أبلغ دليل على هذا التضاد بين رؤية النظامين الملكي والجمهوري الى الهوية الوطنية العراقية هو حظر النظام الملكي – على لسان وزير داخليته الكردي سعيد القزاز – لتأسيس حزب المؤتمر الوطني في 1956 لتبنيه الشراكة بين العرب والكرد في الوطن والاقرار بحقوق الكرد القومية ضمن الوحدة العراقية، بينما تم توثيق هذا المفهوم في الدستور العراقي المؤقت الذي تم تبنيه بعد تأسيس الجمهورية العراقية بأسبوعين فقط.
لم يكن تبني العهد الجمهوري الجديد لهذا التحول في الهوية الوطنية العراقية موضوعاً عرضياً أو مستعجلاً أو تعبيراً عن إرادة فردية، كما لم يكن نتيجة مباشرة للكفاح المسلّح للحركة التحررية الكردية، فآخر ثورة كردية ضد النظام الملكي كانت بقيادة الملا مصطفى البارزاني وانتهت في 1945 بنفيه الى كردستان ايران وبعدها الى الاتحاد السوفيتي؛ بل كان هذا التحول نتيجة تفاعل الكرد السياسي والثقافي كفئة مجتمعية متكافلة ومتكاملة مع باقي فئات المجتمع العراقي خاصة في أوساط المعارضة للنظام الملكي. فكان الكرد يمثلون المحور الفعلي للحزب الشيوعي العراقي خلال 1949-1955 (حوالي 31% من عضوية اللجان المركزية بالإضافة الى شغل جميع مناصب السكرتيرين العامين)، أما الحزب الديمقراطي الكردي (تحوّل اسمه لاحقا الى الديمقراطي الكردستاني) فأعلن معارضته للانفصال عن العراق ودعا الى نظام اتحادي على أساس الاخوة العربية الكردية وكان ناشطاً في الفضاء السياسي المعارض ومساهماً في ساحات الاحتجاج في بغداد.
إلا إن الدور الأساسي في هذا التحول يعود بالدرجة الأولى الى الريادة الثقافية لناشطي قوى المعارضة خاصة اليساريين مثل عزيز شريف الذي اعتبر في كتابه "المسألة الكردية" في 1950 أن الوحدة العراقية الحديثة هي مصطنعة وقائمة على الضّم والاستغلال الاستعماري، فيما دعا الجماهير العربية الى الاعتراف بحرية تقرير المصير لكرد العراق بما في ذلك الانفصال وتأليف دولة مستقلة، بينما دعا الكرد الى النضال ضد الميول الانعزالية ونحو الاتحاد الاختياري مع العراق. ثم تتابع بعد ذلك توافق بقية القوى المعارضة على تبني مفهوم الشراكة في الوطن مع الكرد والاعتراف بالحقوق القومية الكردية ضمن الوحدة العراقية.
وعلى الرغم من لجوء جميع الأنظمة الجمهورية الى القمع العسكري ضد طموحات كرد العراق القومية، إلا إن جميعها سواء كانت عراقوية أو عروبية الانتماء، تبنت هذا الاعتراف بالحقوق القومية لكرد العراق وحاولت منح الكرد درجات متباينة من الحكم الذاتي وتمثيلهم في مناصب مختلفة في الحكومة، ما يدل على ترسّخ مفهوم الشراكة في الوطن وهوية الدولة العراقية ثنائية القومية كتعبير عن إرادة جماعية لقوى مجتمعية وسياسية فاعلة وذات قاعدة جماهيرية واسعة خارج نطاق الأيديولوجيات الحزبية الضيقة.
وعلى الرغم من دفعهم أثماناً باهظة خلال الحرب العراقية- الإيرانية شملت استخدام الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً في حلبجة وحملة الأنفال الوحشية، إلا إن الفرصة واتت الكرد العراقيين لتحقيق الكثير من أمانيهم القومية بعد انتهاء حرب الكويت. فقد اضطر نظام صدام حسين الى الانسحاب من معظم مناطق كردستان وتم تكوين حكم إدارة ذاتية في كردستان أجرت انتخابات برلمانية في 1992 وأعلنت بعدها اتحاد إقليم كردستان (من طرف واحد) مع الدولة العراقية على أساس الفيدرالية، على الرغم من إن علاقات الإقليم مع نظام صدام حسين في تلك الفترة كانت شبه مقطوعة.
لقد تعززت الفرصة لتحقيق أماني الكرد العراقيين القومية بعد الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين في 2003، فتم تضمين الدستور العراقي للنظام السياسي الجديد تفاصيل عديدة تضمن ممارسة الكرد لحقوقهم القومية ضمن الدولة العراقية بما يمثل نقلة نوعية كبيرة عن المفاهيم العامة في الدساتير المؤقتة للعهود الجمهورية السابقة، وعن التطبيقات المقترحة حينها من حيث اللامركزية الإدارية أو الحكم الذاتي المحدود. فأقر الدستور العراقي الحالي حقوق الكرد العراقيين القومية مثل عدم اعتبارهم جزءاً من الأمة العربية واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية. كما أسس لدولة اتحادية (فيدرالية)، وأقر إقليم كردستان وسلطاته القائمة عندئذ كإقليم اتحادي يستمر العمل بالقوانين التي شرعها برلمان الإقليم منذ 1992، بالإضافة الى مراعاة حقوق الإقليم في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية وفي المُنح والقروض الدولية وفي التوازن في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية العراقية. كما حدد اختصاصات مشتركة بين الإقليم والحكومة الاتحادية تشمل الجمارك والطاقة والموارد الطبيعية ورسم السياسات الاستراتيجية الخدمية، بالإضافة الى صلاحيات لحكومة الإقليم مثل فتح مكاتب في السفارات والبعثات الدبلوماسية، واختصاصات حصرية لكل ما تتطلبه إدارة الإقليم بما في ذلك تنظيم قوى الامن الداخلي وحرس الإقليم. لقد طُرح هذا الدستور العراقي كمسودة لمدة 6 أسابيع قبل اعتماده في الاستفتاء الذي جرى في تشرين الأول 2005، حينما صوتت محافظات إقليم كردستان لصالح الدستور بنسبة 99%.
ما يمكن استخلاصه من هذه السطور إن التغيير السياسي في 14 تموز 1958 وحاضنته المجتمعية الواسعة كان لهم الدور المحوري الأهم في تأسيس وتوجيه المسار الذي أدّى الى تحقيق ما يتمتع به اليوم الكرد العراقيون من الممارسة الفعلية عالية المستوى لحقوقهم القومية وبصورة فارقة جداً لواقع كرد الجوار في تركيا وإيران. فقد أسس النظام الجمهوري الوليد لمفهوم الشراكة العربية-الكردية في الوطن كثقافة مجتمعية مهيمنة تمثل حلاً خلاقاً للتنوع الاجتماعي في العراق تحول فيه الكرد من أحد الأقليات في العراق الملكي العربي الى شريك أساسي الى جانب العرب في العراق الجمهوري ثنائي القومية. لقد تحقق للكرد العراقيين – ولأول مرة في التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط - حرية تقرير المصير عبر اتحادهم الاختياري مع الدولة العراقية الاتحادية في استفتاء الدستور العراقي في 2005 والذي صوتوا لصالحه بالإجماع تقريبا.
السؤال المهم الآن هو الى اين يمكن ان يتجه الكرد العراقيون بعد تحقيقهم لهذه الإنجازات التاريخية، خاصة عند الأخذ بالاعتبار المشكلات المتفاقمة في إدارة الإقليم وفي العلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية، والتي تهدد ديمومة هذه الإنجازات المتحققة والممارسات الواسعة للحقوق القومية الكردية؟ ولعل التهديد الأكبر هنا يأتي من عند الكرد العراقيين أنفسهم الذين أخفقوا لحد الان عبر أزماتهم الداخلية المستمرة في إدارة إقليم كردستان سياسياً واقتصادياً، خاصة فيما يخص معضلة توحيد نظام الادارتين المتنافستين بين أربيل والسليمانية وبناء إقليم اتحادي ذو كيان دستوري تديره عملية سياسية ديمقراطية حقيقية ومؤسسات مهنية غير مسيسة. وللحديث بقية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. -الخسائر بلبنان غير مقبولة-.. المتحدث باسم الأمم المتحدة: أو
.. موفدة العربية ترصد تطورات التصعيد على الضاحية ومأساة النازحي
.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - الأمم المتحدة تدين العدوان الإسر
.. بتوقيت مصر يناقش رفض مصر للتصعيد في المنطقة أمام الأمم المتح
.. تفاقم معاناة النازحين في لبنان