الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمومة الزمنية عند هنري برجسون

رائد عبيس

2024 / 1 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



انقسمت أبعاد الديمومة عند برجسون إلى مسارين : الأول خارجي والثاني داخلي , كسب النوع الأول صفة الموضوعية, وكسب النوع الثاني صفة الذاتية , وبين الموضوعية والذاتية ترابط لا يمكن فصله أول وهله, من دون إدراك حقيقة البعد الانطولوجي لوجودنا والعالم الذي ندركه. فلا يمكن أن نفهم كل الوجود بمجرد إدراكنا لذاتنا أو فهمنا لها ؛ لأن ذواتنا محدودة إزاء الموجود معناً وواقعاً. على الرغم من كل المعاني التي نصنعها له, سواء كسبت صفة الحقيقة أو الخيال.
لكي يجب أن نعي ذلك بشكله الصحيح علينا أن ندرك معنى "التغيير" وأي "تغيير" نقصد ,هل التغيير بالمعنى الكوني ؟ أم التغيير بالمعنى الذاتي ؟ هل التغيير الحر ؟ أم التغيير بالطبيعة ؟
تشير الملاحظة الأولى على وفق برجسون إلى أن هناك تغيير ينبع من الإحساس به . قبل إدراكه بوعي تام ؟ مثل : تغيير حركة الأرض التي لم يكن البشر مثلاً يدركها في البدء , وعلى أساس تغييرها. تتغير مشاعرة, وأحاسيسه, وعواطفه, تبعاً لما يُحققه ذلك الدوران من تعاقب الليل, والنهار , والحر, والبرد, والغروب, والشروق. فيكون جراء ذلك التغيير ,تغيير ذاتي مصحوب بمعرفة أو جهل عن حقيقة أصالة ذلك التغيير الذي ربطه بمحور الإدراك بعوالمه وحالاته. وهو ما لا يكفي لفهم التغيير على الحقيقة , لأننا ببساطة أكثر تقلباً في فهم التغيير من التغيير ذاته. وهذا ما لا يمكن أن نحد به التغيير ؛ لأن ديمومته أكثر عمقاً من التأريخ.
أما الملاحظة الثانية فهي الإنتباه للحظة التي يربط بها ذواتنا بعوالمها التاريخية الماضية, وبواقعها, ومستقبلها. فلا يكفي فهم الفواصل الزمنية كمحطات توقف لحظي بين ذاكرتنا, وآنيتنا, وتطلعنا. لتعرف أن هناك كون متصل يشعرنا بتغيرنا. بل نحتاج إلى ذلك قناعة تامة أن الزمن هو سيل متدفق أبلغ من ما تشعر به نفوسنا داخل هذا الزمن. فهو أكبر من تجاربنا الفردية في تقطيعه على وفق ذاكرتنا, وانفعالاتها النفسية. وهنا قدم لنا برجسون اقرار بما يمكن أن نصطلح عليه "الديمومة اللامتناهية" في مقابل "الديمومة المتناهية" التي تختزلها ذاكرتنا والتي تعتمد على الإنتباه.

المسار الخارجي للديمومة :

وقد عبرنا عنه بالمسار ؛ لأنه يعتمد على الحركة, ونقصد بالحركة الخارجية للديمومة, هو ما نستشعر وجوده خارجياً منها, وما تشعرنا هي به, فتكون لنا حالة انطولوجية متكاملة لا يمكن نكران وجودها, ولا يمكن أن تكون مقيدة بانتباهنا, أو إدراكنا, أو اعترافنا, أو شعورنا, أو الزمن الذي تحتويه ذاكرتنا عن حقائقنا. فعوالمها هي عوامل مساعدة لنا. في إدراك وجودنا معها, وفيها, ولها. وعندها لا تكون ذواتنا محايدة, لأننا نكون عاطفيين ونسقط عليها أحكامنا وتجاربنا تبعاً لمؤثرها. وهنا نسقط عامل التغيير أو نرهنه لصالح متغيراتها التي تكون موضوعية في العادة, وخارج إرادتنا فيه .


المسار الداخلي للديمومة :

وهو المسار الذي ندرك به الحركة النفسية, الحركة داخل مؤثرات النفس, بكونها صانعة لحالات معقدة من حركة النفس سواء مع الذاكرة, أو مع العقل , أو مع الأحاسيس, أو مع الإرادة, أو مع الانفعال ,أو مع التجارب, أو مع القلق, أو مع أي عامل نفسي داخلي لا نشعر به , مثل : حالة الحب , والكراهية , والبغض ... وغيرها التي تستجيب لقوى الذاكرة أن تفعل فعلها فينا . فتغير من وعينا في التغير نفسه , وحصره بما يمكن للذاكرة أن تصنعه فيه أو تحده. كذاكرة الطفولة , والذكريات اللاشعورية التي تنتابها فجأة. وعمليات الجهاز العصبي فيها , أو الجهاز الدماغي الذي بالعادة يتذكر لنا المواقف, ويعيدنا حيث الماضي الذي هو عودة إلى مصدر الديمومة كما يختزله برجسون .

هيرقليطيسية برجسون المتفاوتة :

ورد عن هيرقليطس قوله: "لا يمكن للرجل أن يخطو في النهر مرتين " , وقال برجسون : "يستحيل على شعور ما أن يمر بحالة بعينها مرتين " , وهنا لا نعرف لماذا خص الرجل دون النساء ! ولعله كان يقصد المرء بشكل عام , من دون خصوصية الرجل. لا نعلم سبب ذكورية القول عنده !
ونذكر على نحو المقارنة بين المقولتين ملاحظات في أصل المقولتين, إن مقولة هيرقليطس تشير إلى عامل الصيرورة والتغيير المادي في حالة جريان الماء, وفي حالة التعرض له. أما مقولة برجسون فتشير إلى معنى السيرورة والتغيير المعنوي. ويتضح أن مقولة هيرقليطس تشير إلى أرجل الإنسان, أو الرجل الذي يمر في لك النهر, وهو أداة مادية لمقياس التغيير والشعور به.
أما مقولة برجسون فتشير إلى حالة نفسية تختلف باختلاف حالات الإحساس بالفرح, أو الحزن, أو غير ذلك. أما إذا كان هيرقليطس يقصد عامل الزمن الذي ينزل به الرجل للماء في النهر, فإنه يختلف بالتأكيد عن الزمن الذي بقصده برجسون في حالات الشعور الآنية التي لا تختلف بسهولة في حالة جريان الماء لمن قدم رجله أو نزل به. وإذا كان تشبيه هيرقليطس للزمن بالماء وجريانه وتدفقه, فهذا يعني أنه أسقط عليه حركة بطيئة , وأفقد الزمن سرعته , أما مع برجسون فإن الزمن المشعور هو نفسه الآنات الزمنية اللحظية التي تتدفق في زمن الديمومة المتناهية.

الماضي – الأصل الزمني للديمومة :

لحظية التجارب الفردية أو الشعور بها ,جعلت من برجسون يذهب إلى الاعتقاد أن الماضي هو الأصل الزمني للديمومة , فلا يمكن أن نختصر الديمومة بمعنى التدفق الزمني فحسب , ولا يمكن أن نقطعها بالفواصل الزمنية , لتكون ماضي, وحاضر, ومستقبل. بل هو الركيزة الأساسية لإدراك التغيير ونقلاته الزمنية, ونحن نعني ذواتنا التي تستمد من ذلك الماضي كل خبراتها التي تكفيها لإحداث التغيير . فالتجارب الجامدة التي لا تمنحنا التغيير , هي تجارب لا تمنحنا الديمومة الزمنية للتغيير الدائم ؛ لأن ذكرياتنا مع الماضي ليست كافية لإحداث تصور نفسي بالديمومة, مالم ندرك اللا انقطاع التام بيننا وبينها. فهي واحدة لا تقبل الانقسام ولا الاستقلالية بين معنى الحاضر, والمستقبل , فهي لحظة تاريخية أصيلة حاضرة على الدوام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رد فعل لا يصدق لزرافة إثر تقويم طبيب لعظام رقبتها


.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصفه بنى تحتية عسكرية لحزب الله في كفر




.. محاولات طفل جمع بقايا المساعدات الإنسانية في غزة


.. ما أهم ما تناوله الإعلام الإسرائيلي بشأن الحرب على غزة؟




.. 1.3 مليار دولار جائزة يانصيب أمريكية لمهاجر