الحوار المتمدن
- موبايل
- مهدي بندق
الموقع
الرئيسي
للمزيد - الموقع الرئيسي للكاتب-ة
مهدى بندق
(1941 - .... )
سيرة ذاتية غير تقليدية
أولاً - الوضع الحالى :
- رئيس تحرير مجلة تحديات ثقافية
- عضو المجلس الأعلى للثقافة (قرار وزارى رقم 767 لسنة 1999)
- عضو مجلس إدارة مركز الإسكندرية للإبداع (قرار وزارى رقم 747 لسنة 2001)
- عضو لجنة الدراسات اللغوية بمكتبة الإسكندرية
- عضو إتحاد كتاب مصر
- عضو إتحاد الكتاب العرب
* ملاحظة ثانوية :
شغل وظيفة مدير إدارة بالقطاع العام الحكومى، قبل أن يطلب إحالته على المعاش المبكر عام 1992، كى يتفرغ للكتابة.
ثانياً - الجوائز والتكريم والمنح :
- جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1964.
- جائزة الدولة التشجيعية عام 1993.
- درع التقدير من مؤتمر الأدب المسرحى للهيئة العامة لقصور الثقافة 1997.
- شهادة تقدير من الهيئة العامة لقصور الثقافة (لدوره فى إثراء الحركة المسرحية) مؤتمر أدباء مصر بالأقاليم 1999.
- درع تقدير الحزب الوطنى الديمقراطى لنفس الدور عام 1999.
- حصدت مسرحيته الشعرية "ليلة زفاف إلكترا" ثمانى جوائز بمهرجان المسرح التجريبى بعمان – الأردن 1997.
- شهادة تقدير من البيت الفنى للمسرح بمهرجان الكاتب المسرحى المصرى عن مسرحيته الشعرية "آخر أيام أخناتون" عام 2005.
- أعدت عن أعماله المسرحية رسائل ماجستير ودكتوراه بجامعات المنيا، وعين شمس، والإسكندرية.
- نال منح تفرغ من وزارة الثقافة منذ عام 1996 وحتى الآن، كانت حصيلتها ثلاثة عشر كتاباً.
ثالثاً - المؤتمرات :
شارك بأبحاثه فى فعاليات المؤتمرات التالية :
1- مؤتمر المربد الشعرى أعوام 1987 ، 1988 ، 1989.
2- مؤتمر النهر الصناعى العظيم ببنى غازى – ليبيا عام 1989.
3- مؤتمر الحكيم حضور متجدد، المجلس الاعلى للثقافة بالقاهرة عام 1998.
4- مؤتمر الأدبى العربى والعالمية، المجلس الاعلى للثقافة بالقاهرة عام 1999.
5- مؤتمر المشروع الثقافى للويس عوض، المجلس الاعلى للثقافة بالقاهرة عام 2001.
6- مؤتمر الحرية الفكرية ، المجلس الاعلى للثقافة بالقاهرة عام 2004.
7- مؤتمر العقاد مجدداً ، مركز إبداع الإسكندرية عام 2004 .
* كما اختير أميناً عاماً لهذا المؤتمر.
رابعاً - الكتب التى تناولت أعمال الكاتب :
1- مسرح الثمانينات – د. مصطفى عبد الغنى – دار الوفاء 1985.
2- فى دائرة النقد - د. مصطفى عبد الغنى – المجلس القومى للفنون 1986.
3- المسرح العربى والتراث – د. أبو الحسن سلام – كتاب كلية آداب الإسكندرية 1989.
4- تطور البناء الفنى للمسرح – د. السعيد الورقى – دار المعرفة الجامعية 1990.
5- معيار النص المسرحى – د. أبو الحسن سلام – دار المطبوعات الجديدة 1991.
6- كتاب أدباء مصر – د. عصام البهى – هـ. ع. لقصور الثقافة 1992.
7- الأدب وتحديات المستقبل – د. مصطفى عبد الغن – هـ. ع. لقصور الثقافة 1994.
8- كتاب أدباء مصر - د. مدحت الجيار - هـ. ع. لقصور الثقافة 1995.
9- كتاب التقاء البحرين – د. يوسف زيدان – الدار المصرية اللبنانية 1997.
10- مقدمة فى نظرية المسرح الشعرى – د. أبو الحسن سلام – مؤسسة حورس الدولية 1999
11- دراسات عربية فى الأدب والفكر – د. محمد على الكردى – هـ. ع. لقصور الثقافة 1999
12- مبدعون فى الأقاليم – طارق الطاهر – هـ. ع. للكتاب 2002 .
13- أصوات شعرية مقتحمة – فاروق شوشة – هـ. ع لقصور الثقافة 2004.
* بالإضافة للدراسات المنشورة عن أعمال الكاتب بالأهرام ، والأهرام ويكلى ، والأهرام إبدو، ومجلات المسرح، والقاهرة ، وفصول، وتحديات ثقافية ، والطليعة العراقية، والأسبوع السورية، والكويت الكويتية ، بأقلام الأساتذة :
محمود أمين العالم ، د. جابر عصفور ، د. صلاح فضل، د. نهاد صليحة، د. محمد زكى العشماى، د. شيرين أبو النجا، نبيل بدران، جلال العشرى، د. سيد على، عبد العال الحمامصى، فؤاد دوارة، أمير سلامة ، أحمد عبد الحميد ، د. وحيد عبد المجيد، د. أحمد العشرى، شمس الدين موسى، ثروت أباظة ، أحمد زكى عبد الحليم، حامد إبراهيم ، مؤمن الهباء، حزين عمر، يسرى حسان، مصطفى القاضى، د. غبريال وهبة وغيرهم (مرفق صور هذه المقالات والدراسات).
خامساً - العروض المسرحية :
مكان وتاريخ المخرج الفرقة المسرحية
مسرح جمعية الدراما 1978 د. أبو الحسن سلام فرقة دراما الإسكندرية 1- الملك لير
مسرح أكاديمية الفنون 1984 حسن رشد فرقة المعهد العالى للتمثيل 2- ريم على الدم
مسرح الشباب عاصم رأفت مسرح الشباب 3- ليلة زفاف إلكترا بالقاهرة 1989
مسرح سيد درويش 1989 ومسرح السلام بالقاهرة 1989 والرباط بالمغرب 1989 د. أبو الحسن سلام فرقة جامعة الإسكندرية
بغداد 1990 وجدى العانى الفرقة القومية العراقية 4- غيط العنب 1882
مسرح سيد درويش 1984 إيمان الصيرفى فرقة الإسكندرية القومية
البرنامج الثانى 1985 أبو بكر خالد نجوم فرقة المسرح القومى 5- السلطانة هند
المنيا 1995 جمال الخطيب فرقة المنيا المسرحية 6- غيلان الدمشقى
البرنامج الثانى 1996 أحمد سليم نجوم المسرح القومى
البرنامج الثقافى 1999 رضا الجابرى نجوم المسرح القومى 7- مقتل هيباشا الجميلة
البرنامج الثقافى 2000 أحمد سليم نجوم المسرح القومى 8- آخر أيام أخناتون
مسرح العرائس 2005 أحمد هانى مسرح الطليعة
سادساً - الإصدارات :
1. سفينة نوح الضائعة مسرحيـة المجلس الأعلى للفنون والآداب 1964
2. الحلم الطروادي مسرحيـة دار لـــــوران 1966
3. الدين والفن نـقـد دار النهضة العربية 1968
4. الملك لــير مسرحية شعرية دار الــــوادي 1978
5. ريم على الدم مسرحية شعرية دار الــــوادي 1980
6. السلطانة هـــند مسرحية شعرية اتحاد الكــتّاب 1985
7. غيط العــنب 1882 مسرحيـة الهيئة العامة للكتـاب 1985
8. ليلة زفاف إلكترا مسرحية شعرية الهيئة العامة للكتـاب 1987
9. امتحان بن حنبل شـعـر المركز القومي للفنــون 1987
10. غيلان الدمشقي مسرحية شعرية الهيئة العامة للكتـاب 1990
(حازت على جائزة الدولة التشجيعية 1993)
11. حصان على صهوة رجل شـعـر الهيئة العامة للكتـاب 1994
12. يا أورفيوس شـعـر المجلس الأعلى للثقـافة 1996
13. مقتل هيباشا الجميلة شـعـر الهيئة العامة للكتـاب 1996
14. هل أنت الملك تيتي؟ مسرحية شعرية الهيئة العامة للكتـاب ط2 1998
15. آخر أيام اخناتون مسرحية شعرية مؤسسة حورس الدولية 1998
16. الهيئة العامة للكتـاب ط2 2004
17. المسرح وتحولات العقل العربي نـقـد المجلس الأعلى للثقــافة 1998
18. حتشبسوت بدرجة الصفر مسرحية شعرية مؤسسة حورس الدولية 1999
19. بسماتيك وبسماتيك مسرحية شعرية مؤسسة حورس الدولية 2000
20. إضراب عن الماء شـعـر مؤسسة حورس الدولية 2000
21. الشريفة بنت صاحب السبيل مسرحية شعرية مؤسسة حورس الدولية 2001
22. استقالة من ديوان العرب شـعـر دار تحديـات ثقافيـة 2002
23. حداثتنا المحاصرة نـقـد الهيئة العامة لقصور الثقافة 2003
24. تفكيك الثقافة العربية نـقـد المجلس الأعلى للثقـافة 2004
25. في شطح الغياب شـعـر دار تحديـات ثقافيـة 2004
26. سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر نـقـد دار تحديـات ثقافيـة 2005
و .. كلمة مستمرة
بدأ صاحب هذه الأعمال رحلته مع الكتابة، شاباً فى الثالثة والعشرين ، تغذية مشاعر لاهبه، غايتها الانعتاق من عالم الضرورة إلى فضاء الحرية. وها هو ذا – وقد تجاوز الثالثة والستين لا يزال ضارباً فى التيه. كلما أمسك بشئ أفلت هذا الشئ من بين أصابعه مثل فرص الضوء الجموح.. وكلما عاد إلى موضع فى النهر وحده اختفى مع التيار المتدفق أبداً، وهكذا رأى كل ما ظنه صُلباً، يذوب فى الهواء. وأما القيود التى نجح فى نزعها سرعان ما حلت محلها قيود من نوع جديد.
ومع ذلك فلقد علمته الكتابة أن الشعر ليس مجرد صور وألفاظ وموسيقى تعبر عن أحاسيس قائلها ، بل هو كشف واقتحام وخلق، وأن المسرحية ليست تمثيلاً لحدث ذى حبكة وشخصيات فى صراع، بقدر ما هى تواصل إنسانى، ودعوة "للأنا الآخر" أن يشارك، وأن الفكر ليس تأملاً سكونياً أو بناءً نقيمه لنسكن فيه ونستريح، وإنما هو بناء وهدم ثم بناء جديد فهدم.. دواليك. إنه "فعل دائب التغيير، موازٍ لحركة الطبيعة التى تتبدل ذاتياً بفضل منتجاتها غير الواعية (= المادة فى جدليتها) أو بفضل منتجها الأخير الواعى (= الإنسان) وعليه فإن ما تعلمه الكاتب ليس بالذى يُنسى أو يُهمل. ومن ثم فإن مشروعه الثقافى (الذى يتقدم به إلى رفاقِه طلاّبِ الحرية رجالاً ونساءً ) يمكن أن يُلخص فى كلمة :
حذار من الركون إلى يقين . فاليقين وهمٌ زيف. حذار من غواية الأيديولوجيا فهى أفعى تبدل كل آونة إهابا. وحذار من الشموليات Totalitarianism فهى الثقوب السوداء تلتهم المادة والأرواح والضمائر والحياة جميعاً.
… … … …
لا غرو إذن أن تكون أعمال الكاتب قد انطلقت من نزوع إلى حداثة تؤسس على غير نموذج سابق التجهيز، حداثة تنتقد التراث العربى- فى جوانبه الثيوقراطية والعسكرتارية – من ناحية، ومن أخرى تكشف زيف نظرية المركزية الأوربية ، باعتبارها تجلياً من تجليات الإمبريالية الثقافية. ومن هنا فلقد سعى الكاتب لإيجاد مكان لنفسه (ولقومه) تحت الشمس، بحسبانه رجلاً صغيراً يعيش فى مدينة مهمشة، فى وطن صار مهمشاً إزاء عولمة متغولة، معتبراً هذا السعى فى حد ذاته إضافةً، ولو نظرية، إلى مسيرة الديمقراطية الحقة، فى مستواها الفلسفى الذى لا ينفى الآخر، والذى يعلى من شأن الفاعلين الاجتماعيين مقابل البُنى المثالية ، التى تجمد التاريخ، وتتجاهل واقع التناقضات – المتفجرة أو الكامنة – فى كينونة الحياة الإنسانية، المتوترة دوماً بين الضرورة والحرية.
ملخصات اعمال الكاتب
أولاً : الأعمال النقدية والفكرية :
1- الدين والفن :
ملخص الكتاب :
دراسة نقدية لأعمال الأديب المصرى اللبرالى ثروت أباظة، وقد كتب عميد الأدب العربى رسالة تقدير لمؤلف الكتاب (= كاتب هذه السطور) وإن عاتبه لاستطراده فى الانتقال إلى بعض الكتاب الأوربيين على سبيل المقارنة ( والرسالة مفتتح للكتاب) بينما كتب الناقد الدكتور شكرى عياد مقدمة ضافية مؤكداً أنه واحد من الكتب النقدية القليلة التى تحاول أن تعيد خلق المعنى من أعمال الأدباء.
والحق أن هذا بالضبط ما حاولنا أن نفعله تأسيساً لرؤية تربط الأدب الإبداعى بالنقد الادبى، وتربط الأثنين بمجريات الحياة الاجتماعية والسياسية، ومن هنا كان ضرورياً أن يقرأ الكاتب روايات هذا الأديب فى ضوء الموقف الفكرى والسياسى المعارض للسلطة الناصرية البونابرتية. فلقد كتب ثروت أباظة رواياته مشبعاً بروح الاعتراض على قمع الحريات وفتح المعتقلات للمعارضين، بمن فيهم الشيوعيون والإخوان المسلمون والوفديون وسائر القوى السياسية. فكان أن قرأ الكاتب روايات هارب من الأيام، وشئ من الخوف، ولقاء هناك، وقصر على النيل ، وغيرها بحسبانها نشاطاً فكرياً يعادل بأدبيته توجهات الطبقة الوسطى (البورجوازية المصرية) التى أحبطتها "عسكرتاريا" ثورة يوليو 1952 فكان أن انزلقت شرائح منها إلى حدود البورجوازية الصغيرة، بينما صعدت شرائح أخرى إلى قمة السلطة مشكلة طبقة جديدة هى البورجوازية البيروقراطية تلك التى قادت البلاد إلى هزيمة حزيران 1967 .
فى هذا المناخ حاول الكاتب أن يعرض لفكره (فى حذر يندم الآن عليه) فلقد كان ممكناً مناقشة إشكالية الدين من جوانب عديدة مثل الجانب الآنطولوجى (رؤية القديس أوغسطين ونقيضها عند فيورباخ) انطلاقاً إلى الموقف الماركسى الديالكتيكى الذى يرى فى الدين (والفن أيضاً) تعبيراً عن درجة تطور قوى وعلاقات الإنتاج وبالتالى بنية الدولة وإمكانية الثورة. وهى مناقشات ، وإن بدت كخلفية ذهنية فى تضاعيف الكتاب، إلا أنها لم تأخذ حقها على المستوى النظرىّ، وهو الأمر الذى سوف يلتفت إليه الكاتب فى مؤلفاته التالية.
2- المسرح وتحولات العقل العربى :
فى هذا الكتاب يؤسس كاتب هذه السطور نظريته (القابلة للدحض بحسب كارل بوبر) فى النقد المسرحى، بربط هذا النقد المسرحى بالنقد الثقافى العام، وعليه فقد اعتبر الديمقراطية (أعلى أشكال التطور السياسى) هى الملاذ للوحدة الوطنية الحقة، مدركاً أن الديمقراطية ليست مجرد شكل لإدارة الشئون العامة، تتمظهر فى حرية تكوين الأحزاب، ونزاهة الانتخابات، وكفالة حرية التفكير والتعبير، فتلك جميعاً ثمرات للخيار الديمقراطى، إنما جذوره لتكمن فى فكر شجاع بات يلح على الامة ليعترف كل فرد فيها – إنطولوجياً وابستيمياً – بالآخر المختلف، جنساً (رجلاً كان أو إمرأة) وديانة (مسلماً كان أو مسيحياً) وعقيدة (مؤمناً كان أو ملحداً) وتلك رؤيا حداثية للعالم ، وممارسة ثقافية سلوكية، تنبذ مفاهيم النسق الشمولى، وتتخلى عن قيمه الجامدة الموروثة، ولا تذعن لإرادة البطريركية أيا كان اسمها، وهى ثالثاً تجاوز لمعمار القصيدة التقليدية ذات الصوت الواحد، بانتقالٍ إلى آفاق المغامرة والتجريب وتعدد الأصوات.
يتابع الكاتب – عبر فصول هذا الكتاب – أسباب ونتائج جمود العقل العربى على مستوى البنية التحتية والبنية الفوقية، فيدرس فى ضوء الأداة المعرفية المسماة بالنمط الآسيوى للإنتاج، مظاهر غياب المسرح عن حضارة مصر الفرعونية، واستمرار هذا الغياب حتى العصر الحديث، حيث لم يعرف فن المسرح إلا بعد أن أدخل محمد على الكبير زراعة القطن فى مصر (وهو تغيير ثورى لنمط الإنتاج السائد يشبه إلى حد ما اكتشاف البخار فى أوربا) حيث تم تأسيس اقتصاد لا يقوم على الإنتاج بقصد الاستهلاك، بل على إنتاج يمكن إعادة إنتاجه (صناعياً) وآية ذلك أن عقوداً معدودة سرعان ما جلبت إلى البلاد قوانين تتيح امتلاك الأرض الزراعية (اللائحة السعيدية 1852، قانون المقابلة 1857) بعد أن ظلت الأرض حكراً للدولة، / الفرعون، أو الدولة / الخليفة، أو الدولة / الوالى . عندئذ فحسب أمكن لطبقة اجتماعية – هى كبار ملاك الأرض – أن تتحالف مع تجار المدن وعمال الصناعات الناشئة بالضد على أوتوقراطية القصر وكبار الإقطاعيين من العثمانيين والأجانب، فكان أن هبت الحركة العرابية (بروفة ثورة 1919) ورغم إخفاق هذه الحركة وانكسارها أمام الرأسمالية الأجنبية ممثلة فى الاحتلال البريطانى؛ إلا أن النتائج الاجتماعية والسياسية والثقافية كانت أكثر من راديكالية قياساً إلى عصور الجمود السابقة، التى عاشتها البلاد فى ظل ما أسميناه بالنمط الآسيوى للإنتاج.
فى هذه الفترة ظهر جنين المسرح المصرى بهيئة ترجمات لأعمال موليير وشكسبير وراسين، ما لبثت حتى تطورت إلى أعمال مؤلفة على يدى يعقوب صنوع ومارون نقاش وسائر الأدباء المهاجرين من الشام لمصر، ثم إلى أعمال مكتوبة بأقلام مصرية مثل يعقوب اسحق وإسماعيل عاصم وإبراهيم رمزى ثم توفيق الحكيم. وبالتوازى ظهر من الشعراء من حاول كتابة المسرح الشعرى مثل محمد عبد المطلب ، ثم أحمد شوقى وعزيز أباظة. على أن المسرح المصرى لم تتبلور ملكاته، ولم ينجب كتَّابه الناضجين إلا مع التغيرات الاجتماعية الهائلة التى صاحبت حركة الجيش، فثما أصبح يعرف من بعد بثورة 23 يوليو 1952، فلقد عمدت قيادة هذه الحركة إلى تصفية الأملاك الزراعية للإقطاعيين، فخلقت بذلك طبقة بورجوازية فلاحية، تحالفت معها طبقة العمال الناشئة بنشوء التصنيع الذى أوجبته تصاعد الحركة الوطنية المعادية للاستعمار، ذلك التصاعد الذى وجد صداه فى المنطقة العربية ، والقارة الإفريقية وفى بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية فى مرحلة عرفت بمرحلة ما بعد الكولينيالية.
فى هذا المناخ المحلى والإقليمى والدولى وجد المسرح المصرى الميدان نسيجاً للتعبير عن البراكسيس Praxis فظهر الكتاّبُ ذوو النزعات اليسارية أمثال نعمان عاشور، ويوسف أدريس ، وميخائيل رومان ، ومحمود دياب، وسعد وهبه، ومن الشعراء عبد الرحمن الشرقاوى، وصلاح عبد الصبور. ولقد كان ممكناً لإزدهار المسرح أن يجرى على أيديهم ، وأن يؤتى ثماره الطيبة لولا أن انفراد القيادة السياسية بصنع القرار، وإلزام المثقفين به تحت شعار "وحدة الصف الوطنى" كان كفيلاً بإجهاض المشروع المسرحى الذى كان فى الحقيقة مرآة لأزمة الديمقراطية ، وضعف تجذرها فى تربة لم ينضج فيها تراكم رأس المال الصناعى إلى حد خلق طبقة بورجوازية قوية، قادرة على انتزاع السلطة السياسية من أيدى العسكريين والبيروقراطيين، ومن ثم كانت الانتكاسة : الهزيمة العسكرية ، والتراجع الاقتصادى، والانتحار الثقافى .
يدرس الكتاب إمكانية تأصيل نظرية للمسرح المصرى من وجهة نظر علم اجتماع المعرفة، محاولاً تحديد الوظيفة الثقافية التى يمكن أن يضطلع بها فيما هو تال، فضلاً عن محاولة اختراق الحدود المعرفية المرسومة له من قبل السلطة السياسية (الرقابة القانونية على المصنفات الفنية التى لا تسمح بالنقد الراديكالى لنظام الحكم) وكذلك الحدود المفروضة من قبل المؤسسة الدينية، التى تكفر كل من يتعرض للعقيدة الإسلامية ولو بتحليل علمى تاريخى (مثال : الدكتور نصر حامد أبو زيد) وكذلك الحدود المقبولة لدى الجماهير المغيبة عن الوعى، بل والمحبذة لاستمرار قيم المجتمع الذكورى الذى يمايز بين الرجل والمرأة فى الحقوق (مثل السماح للرجل بتعدد الزوجات، وبإعطائه وحده حق التطليق دون رجوع إلى سلطة قضائية، كذلك تمييزه فى الميراث بضعف نصيب الأنثى) وفى ظل هذه المحددات السياسية والدينية والاجتماعية فإن المسرح – باعتباره مرآة فنية للحياة – يظل حبيس "الحذاء الصينى" الذى يحجم قدم المرأة – فيشوهها – بحجة أنه يحتفظ لها بجمال خاص!
لقد تمكنت ممارسات الفن التجارى الرخيص من الساحة المسرحية بحكم غياب النص الجاد (المقبول رقابياً) فانتشرت العروض التافهة والباهتة، بل والمسفة حتى صار المسرح المصرى أقرب ما يكون إلى بيوت البغاء ، يقصدها الناس للحصول على اللذة الحسية، أما طلاب اللذة العقلية فلا أمل لهم إلا فى قراءة النصوص الجادة بين دفتى كتاب. وفى سياق نقد هذه الأحوال يقدم الكتاب نماذج من المسرح الجاد (المكافح داخل حدود التابوت السياسى والدينى والاجتماعى) بجانب نماذج من اللامسرح أو ما يسمى الآن فى مصر بالمسرح التجارى.
غير أن الكتاب لا يستسلم للتشاؤم بقدر ما يستشرف آفاق الغد، حين تنجح القوى الاجتماعية الفاعلة فى تحرير الاقتصاد من قبضة الدولة الشمولية، حينئذ قد نرى مسرحاً حقيقياً يبدأ فى التعبير عن الطبقات الجديدة النشطة : البورجوازية المنتجة ، والطبقة العاملة الحليفة والنقيضة فى آن.
3 - حداثتنا المحاصرة
يطمح هذا الكتاب إلى إلقاء بعض الضوء على أزمة ثقافتنا العربية السائدة، من حيث كونها تعبيراً عن أزمة أشمل، أزمة أنطولوجية، أضحى بها وجودنا ذاته مهدداً بالاقتلاع، أو بالسحق ما بين مطرقة الامبريالية الجديدة وبين سندان الإرهاب الناشئ.
الثقافة في رؤيتنا أسلوب حياة بالمعنى الشامل لكل ما هو منتج مادي وعقلي، وعليه فإننا لا نوافق على تعريف تايلور Tailor القائل إنها "الكل المتضمن المعرفة والعقيدة والفنون والآداب والأعراف والفنون والآداب والأخلاق والتقاليد والأعراف والقانون والعادات المكتسبة" ذلك لأن هذا التعريف إنما يقصر الثقافة على المنتجات المعنوية، بينما يهمل أساليب الإنتاج المادي الذي هو أساس المعنويات، وإلا فكيف يمكن تصور انبعاث ثقافة تؤمن بحرية العقيدة وحرية التنقل والعمل في ظل مجتمع زراعي إقطاعي، موارده المالية مصدرها الفيء والخراج؟!.
في هذا المحور الفكري والتاريخي تقع أزمة ثقافتنا العربية، فلقد تجمدت أساليب عيشنا –كما يقول- عند مرحلة الطغيان الشرقي Oriental Despotism التي تتملك فيها الدولة جل وسائل الإنتاج، ويتمتع فيها الحاكم بسلطة الأب البطريركي الذي لا يُعَارَض تسانده في هيمنته على رعاياه أيديولوجية ثيوقراطية تضفي عليه ألواناً من القداسة، وتفرض على الناس طاعته ترداداً لطاعة الإله، وأي حاكم ذاك الذي يسعى إلى تغيير هذا الوضع المثالي بالنسبة له؟!
إن وضعاً تاريخياً، هذا شأنه، لخليق بأن يجمد التطور إلى أجل غير مسمى، وآية ذلك أنه في عصر المأمون بلغت موارد الدولة من الخراج ما يساوي في عصرنا مبلغ 48 مليار جنيه سنوياً، وحين كانت نفقات الدولة جميعها لا تتجاوز ربع هذا المبلغ (حسب قائمتي ابن خلدون وقدامة بن جعفر) فإن فائضاً سنوياً 36 ملياراً من الجنيهات كان تحت تصرف الخليفة، يلقي منها ما يشاء على الشعراء والفقهاء (مثقفي ذلك العصر) وكذلك الجواري والولدان والأتباع.. الخ، وما تبقى يظل حبيساً محاصراً، يذكر بأسطورة الملك ميداس، بيد أن الأبناء (الأمراء والولاة والقادة) سرعان ما ينهضون إلى العمل "الأوديبي" إذ ينقضون على الأب المحتكر المستبد أكلاً للحمه وانتزاعاً لأملاكه، هكذا بدأ انقسام دولة المركز بظهور دويلات الطولونيين ثم الإخشيديين بمصر ثم الخلافة الفاطمية بها، جنباً إلى جنب دولة الحمدانيين في الشام فضلاً عن دولة القرامطة في سواد العراق ثم البحرين، وجميعها ما عدا القرامطة كانت تنهض على ذات الأسس: الفيء (أي مغانم الحروب) والخراج (ريع الأرض الزراعية) لتظل الثقافة العربية محاصرة بنفس الأيديولوجية الثيوقراطية التي تؤكد للناس أن فقرهم مقابل ثراء الحكام الفاحش مسألة طبيعية إذ هي شأن إلهي وليست شأناً إنسانياً بحال!
كان من نتائج ذلك الانقسام السياسي مع جمود الثقافة أن دب الضعف في أوصال الأمة جميعاً، فأنزلت بها الهزائم على أيدي الصليبيين والمغول، وكانت الأمة قد فقدت قبلاً كل سيطرة على البحار الشرقية والبحر المتوسط إزاء النورمان والبيزنطيين لتضيع على طبقاتها التجارية "البرجوازية" ثروات تجارة العبور والتجارة الدولية بعامة، فاضطرت تلك الطبقات إلى موالاة الحكام والتحالف معهم بالضد على ثوار الفلاحين والصناع، مما ضاعف من عزلتها وأوقف نموها خصوصاً بعد أن ورثت الخلافة العثمانية الدور المركزي مكررة نمط دولة الطغيان الشرقي المتسم بالجمود، والمعوق للطبقات الاجتماعية أن تنمو وأن تستقل.
وبالرغم من هبوب رياح التغيير على مصر والعالم العربي بداية من الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر ، فإن البرجوازيات لم تجد أمامها ساحة تلعب فيها دورها التاريخي المنشود، ذلك أن قرينتها الأوربيات، حتى في مرحلتها الماركنتيلية Mercantilism (مرحلة ما قبل ظهور الرأسمالية الحديثة) كانت قد نجحت في تأسيس دولها القومية بعد معاهدة وستفاليا 1648، ومن ثم استطاعت بدعم دولها تلك أن تسيطر على الأسواق العالمية بالتجارة النشطة، ثم بالزخم الاستعماري في القرن التاسع عشر.
فكان على البرجوازيات المحلية أن "تقاتل" كي تحرر أسواقها بله أن تنافس على الأسواق الخارجية، في وقت لم تكن تساندها فيه سلطة الدولة (الثورة العرابية مثلاً) حينئذ كان الانحدار نصيبها جراء انحياز الدولة (الخديوي أولاً ثم القصر الملكي فيما بعد) إلى جيوش الاحتلال الذي كان يضمن لها إقطاع الأرض الزراعية، ولقد تعلمت برجوازية 1919 الدرس من العرابيين فلجأت إلى أسلوب التفاوض مع الاحتلال، والمهادنة مع القصر رأس الإقطاع، معلنة بذلك عجزها عن تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية: القضاء على الإقطاع وتصفية أيديولوجيته الثيولوجية، وإرساء التنمية على أسس حداثية.
وهكذا قنعت تلك الطبقة بحالة التبعية (الكومبرادور) الذي حاولت ثورة 1952 التمرد عليه: فنجحت لبعض الوقت حتى وجهت إليها ضربة 67 لتعود إلى قناعتها بدور التابع للرأسمالية العالمية. فيما عرف في السبعينات الماضية بسياسة الانفتاح. عائدة إلى "والدتها" الماضوية تستعين بها على الاستقرار –استقرار البرجوازية- تسترضيها حيناً وتزجرها حيناً، إنما لا تصفيها أبداً! إذ في تصفيتها فتح للباب أمام تغييرات تأتي من أسفل.
في ظل هذا المحدد التاريخي، وجدت الثقافة العربية نفسها محاصرة بحكم الارتباط الطبيعي بين ما هو منتج مادي وما هو منتج عقلي، فأما الجماهير فلقد تلقفت الدعوات السلفية بارتياح ورضاء، فهي دعوات تقدم لها –على الأقل- تعزية باجترار الماضي التليد، والعيش على أمجاده ويتبدى هذا في مئات المسلسلات التلفزيونية والإذاعية، وآلاف الكتب، وعشرات الآلاف من المقالات، جنباً إلى جنب التعزية بعالم آخر ينال فيه المظلوم حقه ويعاقب المستبد الظالم على ظلمه.
أما النخب المتعلمة جيداً، فلقد راح معظمها يبشر بالخروج من الأزمة عن طريق إتباع خطى الحداثة الغربية، دون التفات إلى اختلاف المسارين هنا وهناك، ودون التفات كذلك إلى أنهم بما يبشرون إنما يؤكدون "التبعية" لفكرة المركزية الأوروبية التي هي "شوفينية" في جوهرها، تستدعي عند الآخرين –بالعناد- شوفينية مضادة، حيث يصبح الإرهاب أقرب إلى وجدان الجماهير من "الديمقراطية" التي يزعم الغرب انه يريدها لنا كي نتقدم! وأنه من أجل هذا الهدف النبيل سوف يقاتلنا حتى الموت! (موتنا نحن طبعاً).
فهل يمكن لأحد أن يتصور خروج ثقافتنا من هذا الحصار المرعب إلى عالم الحداثة الحقيقية، بما تعنيه من رشد عقلي، وإيمان بمستقبل أكثر إشراقاً، بغير حل للأزمة الأنطولوجية الشاملة؟ّ وهو ما تسعى إليه فعلاً قوى وطنية منتجة، وقوى ثقافية تقدمية.
في هذا السياق تنطلق رحلتنا لكشف تمظهرات "حداثتنا المحاصرة" ومحاولات بعضنا للانعتاق من ذلك الحصار –مهما تكن درجة القوة فيها أو درجة الضعف- وقد اخترنا من هذه المحاولات بعضها بمقدار ما اقتربت هي وأصحابها فكرياً وإنسانياً من وعي الكاتب، فكان مشروع جابر عصفور نموذجاً لحقل النقد الأدبي، وتوفيق الحكيم للمسرح، ومحمد جبريل للرواية، وفي مجال التنظير الشعري لقصيدة النثر اخترنا مداخلتنا مع الأستاذ محمود أمين العالم وما تبعها من نصوص ومقاربات، وهي جميعاً ترمي إلى ربط النقد الأدبي بالنقد الثقافي العام الذي حل في عصرنا محل الفلسفة كما يرى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي.
يتناول كتابنا المنهج Method والنظرية Theory باعتبارهما آليتين لا غنى للباحث عنهما، سواء بالقبول أو الرفض، ذلك وأنه حتى في حالة التمرد على المنهج، أو بالابتعاد عن النظرية فإن الأمر لا يخلو من منهجة وتنظير، "هكذا رأينا بول فير آبند Poul Fireabends يفعل في كتابه Anti Method ورأينا جاك دريدا، وإدوارد سعيد، وإعجاز أحمد وغيرهم (على اختلافاتهم الأيديولوجية) يقفون من النظرية موقف الضد، فالنظرية عندهم سلطة تمارس الهيمنة على أصحابها."
ولعلهم في ذلك محقون بناء على ما أحدثه ستالين من تحنيط للفلسفة في الاتحاد السوفييتي السابق، تحت لواء نظرية المادية التاريخية، وهو صحيح أيضاً بقدر ما أجراه جدانوف (وزير ثقافة ستالين) من تشويه للأدب والنقد نفس اللواء.
ومع ذلك سيظل المنهج مطلوباً، وكذلك النظرية، فبغير الأول تغدو الأبحاث الفكرية محض شتات ومنتجات عشوائية، وبغير الثانية فإن المنتج الدلالي لن يشير إلى أبعد من ذاته، عاجزاً عن وضعه في نسق أعم، النسق الذي يوحد بين المعارف والخبرات والمنجزات العقلية.
ولقد حاول هذا الكتاب أن يفتح ثغرة في حائط الحصار المضروب على ثقافتنا، متوسلاً المنهج الجدلي Dialectic Method المستمر بقوانينه: الترابط الشامل، التغيير، صراع الأضداد، وتحول الكم إلى كيف، وذلك في معارضة للنهج الأرسطي القائم على مبدأ السببية وثبات الهوية، وعلى عدم التناقض، بإدراك منه أن المنهج الديالكتيكي ليس قضبان قطار لا سبيل إلى الخروج عنها، بل هو مجرد مرشد على الطريق، تقع ملائمته على تضاريس هذا الطريق، ومن ثم تتغير أدواته بمقدار ما تتغير الأرض، وما تحمله الحوادث –لوجستياً- من إمدادات.
أن النثر الفني هو تعريف ينبع من ثقافة أساسها النمط الخراجي الجامد Tributary Mode of Production ، وفيها يكون الأدب حلية وزينة وترفيهاً، وليس إنتاجاً معرفياً موازياً لنشاط اقتصادي متطور، بيد أن المعنى المعاصر والأوسع للكلمة، يضم إلى نطاق "الأدبيات" كل ما تنجزه العلوم الإنسانية: الاقتصاد، الاجتماع، السياسة.. الخ.. وأما النظرية بحسبانها أعلى مستويات المعرفة من حيث كونها بنية عقلية مكونة من مفاهيم Concepts منسجمة تؤدي إلى ربط النتائج بمقدماتها ربطاً منطقياً، فإننا نرى في المادية التاريخية نسقاً علمياً مقبولاً، مع شيء من التحفظ، على شقيقتها الكبرى "المادية الجدلية" ذلك أن ثمة علاقة ديالكتيكية تربط بالفعل ما بين الضرورة والحرية، غير أن التسليم بوجود قوانين كلية شاملة تحكم الكون في عالمي الماكرو والميكرو ليس إلا نوعاً من الميتافيزيقا، يستحيل الحكم عليه امبريقياً، فالسببية Causality موجودة أحياناً وغائبة أحياناً، وإلا فلماذا يقفز الإلكترون خارج مداره؟ إنه يفعل هذا في بعض الأحيان دون سبب، ولو قال أحد أن ثمة سبباً بالضرورة ولكننا لا نراه، لاستوى هذا مع القول بعدم وجود سبب في تلك الحالة بالذات، دون نفي للسببية بإطلاق، وذلك كله إنما يعني أن النظرية مطلوبة، بقدر ما هو مطلوب أيضاً عدم الخضوع الكامل لهيمنتها.
نحن إذن نلهث وراء التغييرات اللاهثة في عالم سمته التغيير المتسارع، مندفعين على الحد الفاصل بين قبول التحدي، ومراوغته، مشدودين بالتوتر ما بين النظرية النقدية الكبرى، وبين الانعتاق منها أحياناً، وما بين الالتزام بالمنهج الديالكتيكي وبين غواية الانفلات من قبضته الحديدية. ذلك إننا نكاد نجزم بأن النقد الشارح Meta Criticism قد أضحى اليوم –في ظل بيولوجيا الاستنساخ- أحوج ما يكون إلى نقد أعلى يشرحه! فأية أزمة أحاطت بالحداثة في العالم المتقدم! وأية أزمة تلك التي نعجز حتى عن مقاربتها في ظل حداثتنا المحاصرة؟!
وقد تناول الكتاب المشروع الحداثي عند جابر عصفور، وغاية هذه الدراسة إثبات قدرة المفكر الحداثي على بناء مجتمع يعرف كيف يفيد من تراثه الحي دون أن يتنازل عن حقه في الإبداع، وفي الوقت نفسه يعرف كيف يكون التعامل مع الزمن الراهن أخذاً وعطاء، وهو ما لا يتأتى لغير مجتمع يقبل أن تسري في أوصاله نزعة الحداثة Modernism، أما تلك النزعة نفسها فيمكن أن تظهر في أشد المجتمعات تخلفاً أو أكثرها تردياً في النكسات بمجرد ظهور مفكر حداثي واحد، وأما هذا المفكر فمن الطبيعي أنه ما كان ليأتي من فراغ.
إن الحداثة التي عايشتها أوروبا قرنين من الزمان لم تتكون بين يوم وليلة، بل إن أحداً لم يكن ليلاحظ مولدها ولا نموها، ذلك لأن الحداثة حالة حضارية جدلية تصنعها ظروف موضوعية متفاعلة مع الشرط الذاتي (المفكر) وبالنسبة للأولى فلقد صنعتها المعايشة التاريخية لمراحل النهضة والإصلاح الديني، فالتنوير فالعقلانية باستجابة تلقائية للقانون الديالكتيكي "كل تغيير كمي يؤدي في المدى إلى تغيير نوعي" وحيث يقوم هذا التغيير باكتساح كل العلاقات الثابتة المتحجرة –كما يقول ماركس في البيان الشيوعي 1848- وحيث تغدو كل العلاقات الجديدة المتشكلة عتيقة من قبل أن تتحجر، وحيث يصبح كل ما هو صلب ذائباً في الهواء، فإن الحداثة تبدأ دورها وتناضل مثلها مثل كل كائن حي من أجل البقاء.
لقد عرفت المجتمعات العربية –ومصر في القلب منها- ما يسمى بالتحديث Modernity أي محاولة للحاق بالغرب (عن طريق تقليده) بيد أنها ما لبثت إلا قليلاً حتى اصطدمت ثقافياً وسوسيولوجياً بالموروث القومي الذي كان قد تحجر إبان العصرين المملوكي والعثماني، فكان على قادة التحديث –بدءاً من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده حتى قاسم أمين وطه حسين- أن يوائموا بين غاياتهم ومعطيات الواقع، ومن ثم ظهرت بنية النهضة/السقوط حيث كل تقدم كان متبوعاً بالتراجع وكل إنجاز نخبوي كان يقابل باستعباد سياسي واجتماعي، حدث ذلك بفضل الصيغة التلفيقية التي اختارها أصحاب معادلة التراث/العصر، العلم/الدين، الشرق/الغرب.. الخ، حتى انتهى بهم الأمر إلى بركان أطنه.. وكذا انتصر الإسلام البدوي الوهابي العثماني على العلم (بإعلان تكفير كل من يقول بدوران الأرض) وبانتصار المجتمع على الفرد (ممثلاً في الحكم القضائي بتفريق المفكر نصر أبو زيد عن زوجته قسراً) وبانتصار السلطة السياسية على المجتمع المدني (بإخضاع الجمعيات الثقافية لإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والتهديد بحلها إن مارست أي دور سياسي) وبانتصار الغرب اقتصادياً (اتفاقيات الجات) وسياسياً (بإجبار العرب على قبول إسرائيل) وبانتصار السلف اجتماعياً (صعود الإرهاب الديني وانتشار الحجاب والنقاب واللحى والدعوة لعودة المرأة إلى البيت..الخ)، فكأننا بتلك المعادلة وقد شطرت مجتمعنا شطرين متباعدين بل ومتعاديين، نقف على أعتاب حرب أهلية دون أن تسقط عيوننا في حلاقيمنا رعباً وفزعاً!.
على أرض فكرية مختلفة تماماً، تنهض مشروعات الإنتلجنسيا العربية: محمد عابد آركون-محمد عابر الجابري-الطيب تزيني-إدوارد سعيد وحسين مروة، ومشروعات الإنتلجنسيا المصرية: غالي شكري-السيد ياسين-سيد القمني-نصر حامد أبو زيد-سامي خشبة ومحمود أمين العالم وشكري عياد.. وجابر عصفور.
4- تفكيك الثقافة العربية :
الملخص :
يُعـَـرِفُ المثقفون النظرية Theory بأنها أعلى مستويات المعرفة ، فهى بناء عقلى مؤلف من مفاهيم، أو تصورات منسجمة، تؤدى إلى ربط المقدمات بالنتائج، وبهذا تتميز عن الممارسة العملية، أو قل إنها بذلك تتعالى على مجرد المعرفة الساذجة المهوشة.
وقد يضاف إلى هذا التعريف قولّ آخر يجعلها – أى النظرية – مجموعة متسقة من المفاهيم والأفكار المجردة، تنتظمها قابلية البرهنة، وإمكانية الفحص تجريبياً وهذه بدورها تستهدف تأسيس نظام علمى لفهم الظواهر المختلفة.
وما من شك فى أن هناك عديداً من التعريفات الأخرى التى تزيد أو تقل دقة، إنما هى كلها مدح خالص Pure Praise لذلك الجهد العقلى الذى يريد أن يرى العالم يعمل بطريقة منتظمة. وهو جهد ينتمى إلى عصر الحداثة الأوروبية التى راحت تمجد العقل، وتستحثه على حل ألغاز الكون جميعاً، مؤمنة بقدراته موقنة بنجاح مسعاه!
بيد أن مياهاً كثيرة جرت تحت جسور تلك الحداثة، والحق أنها لم تكن مجرد مياه تجرى، بل كانت سيولاً، طوفاناً ، إثر طوفان، جرفت أمامها الجسور جميعاً ، فمن حروب عالمية مدمرة إلى صراعات طبقية مسلحة، ومن تراجع لليبرالية أمام المد الفاشى إلى تآكل الحلم اليسارى بعالم تتراخى فيه قبضة الدولة، أو تذبل فيه الدولة مثل شمعة حسب تعبير فريدريك إنجلز الشهير، والأكثر من هذا أن الماركسية باعتبارها فلسفة تحرر أخذت فى التحول إلى أداة قمع على يد ستالين وبيريا وجدانوف . وعلى الجانب الآخر تجمدت الفلسفة فى الغرب على يد البنيوية – وريثة الوضعية والوضعية المنطقية – بتأكيدها على مفعولية البشر ونبذ ما أسمته بوهم الفاعلية، أضف إلى ذلك تأثير نيتشة المدمر لتاريخ أوروبا الروحى (المسيحية) فضلاً عن النخر الذى أحدثه فرويد فى عظام العقل ذاته بكشفه عن ظلمات اللاوعى، وأثر اللامعقول Absurd فى السلوك الإنسانى.
كل هذا وغيره كان قميناً بأن يُصَدَّع البناء الشامخ للنظرية، وأن يفتح الباب أمام الرغبة فى التحرر من هيمنتها (بول فيرابند، إعجاز أحمد، إدوارد سعيد ، جاك دريدا…إلخ) وإن كانت هذه الرغبة لا تخلو، بدورها، من منهجة وتنظير . ولا شك أن التفكيك Deconstruction يعد أقوى الآليات المناهضة للنظرية، فهو بحكم طبيعته هادم لها، ومفكك لأوصالها باعتبارها سلطة متعالية على الواقع وعلى المفكر فى آن، بينما ترى هى فى نفسها ممثلاً للوعى الضدى الذى لا يلجأ إلى الاستبدالية اللبقة Euphemism يجمل بها قبح الواقع واستعصائه على الفهم بلغة التوازن والانسجام.
وفى مجال الثقافات التى تنهض على "النص" Text الثابت بأكثر مما تنهض على أسس مادية إنتاجية، فإن هذا النص – بألف لام الجنس وليس العهدد – ليغرى بالمراجعة (كان الشيوعيون الأرثوذكس يوجهون أبشع الإهانات للمفكرين واصفين إياهم بالمراجعين) والمراجعة تقود إلى اكتشاف مناطق يناقض "النص" فيها نفس القوانين التى استنها لذاته، ومن هنا يبدأ التفكيك.
وثقافتنا العربية نص كبير، هو الشعر والنثر وقواعد السلوك، التقاليد والأعراف، الثوابت والمتغيرات (الأخيرة لا تقع إلا فى إطار الأولى) وهو البناء الأيديولوجى بطوابقه وأبنيته، إنه بكلمة محددة: البيت والملاذ، هذا البيت الذى ظنه الناس صامداً أبدياً (بينما كانت عوامل التعرية تفعل فيه فعلها) إلى أن هاجمته رياح العولمة – قل أعاصيرها – فإذا به يترنح منذراً بالتهاوى والسقوط. ولا نحسب أننا فى حاجة إلى التدليل على ذلك بعد أن عاين الجميع موافقة العرب جميعاً على دوام إقامة الدخيل (إسرائيل) بهذا البيت ، وحتى وإن لم يسلم ببعض حقوق الأهل فى الإقامة بجواره، كذلك بعد أن سمح الجميع للثور الأمريكى الهائج أن ينظم لهم أطباق الصينى وأطباق الخزف التى يملكون، يحيى هذا الشقيق ويميت تلك الشقيقة، يعيد هيكلة البيت ، ويغير خرائطة، ويحذف من مكتبته ما يشاء ويضيف إليها ما يرى.
فهل كانت هذه الثقافة العربية على تلك الدرجة من الهشاشة؟! فأين النظرية وأين المنهج؟!
والحق أن مثقفين عرباً كباراً سعوا للإجابة عن هذا السؤال، بيد أن أغلب الإجابات كانت تعمل فى سياق البناء الفوقى – تاريخ الأفكار - بأكثر من سعيها إلى الحفر عند الجذور المادية لتلك الثقافة، نستثنى منهم – على سبيل المثال لا الحصر – مفكرين من طراز سمير أمين ، حسين مروة، محمود أمين العالم، عبد الهادى عبد الرحمن، ومحمود إسماعيل، لكن المشكلة أن جهود هؤلاء المفكرين لا تتبع فى الغالب الأعم بجهود أخرى تلقى بأضواء جديدة على مناطق تسمح بتفكيك النص الثقافى الذى بات وجوده بهيئته الحالية مكبلاً للإنسان العربى المعاصر، ومانعاً إياه من التحرر فالانطلاق إلى عالم الغد.
وهذا الكتاب هو ثمرة جهد متواضع فى هذا السياق، أردنا به أن نستحث غيرنا لكى يواصل ويمارس دون انتظار لاكتمال (النظرية) تلك التى أشرنا إلى خطورتها باعتبارها سلطة وهيمنة، فكفى بالإنسان العربى ما لاقاه من عنت السلطات، وهيمنة النصوص الشارحة Meta-text.
ومع ذلك فالأمر لا يستقيم بالاعتماد على مبدأ "الحركة بركة" دون الارتفاع أحياناً إلى المستوى النظرى. فالنظرية ضرورية حتى فى محاولة الانفلات من قبضتها، فهى القطب الآخر – حتى ولو كان سلبياً – الذى يحقق مع الممارسة Praxis التوتر الخلاق للعقل، هذا التوتر الذى يؤدى غيابه إلى الاستكانة والتبعية والمفعولية.
وعلى هذا فنحن بالطبع لا ننطلق نخبط خبط عشواء، بل نسعى فحسب إلى نبذ النظريات الجاهزة، والمناهج الصارمة ، بقناعة أن اشتقاق النظرية من النظرية إنما يبعدها عن الواقع الذى أرادت أن تعبر عنه، لكن تحليل الواقع (المتغير دوماً كنهر هرقليطس) قد يقود (أو لا يقود) إلى نظرية قابلة والتبديل ، والمراجعة وربما المحو ركوب النظرية إذن هو المطلوب، وليس العكس(•)
هذا عن النظرية . أما المنهج فقد يقال إن المنهج الصارم هو وحده المنهج العلمى. بل هو عند كارل بوبر العلم نفسه. وكذلك قال عنه ديكارت إنه القواعد المؤكدة البسيطة التى إذا تمت مراعاتها أَمِنَ المرء أن يحسب صوابا ما هو خطأ . وهذا صحيح ، لكن ليس بالإطلاق ، وإلا لجاز أن نتساءل عن الصواب بداية . وهو ما يعنى مصادرة على المطلوب بنوع من التسلسل المنطقى والدَوَر وفى حالة كارل بوبر فلقد كفانا "فيرابند" فى كتابه "ضد المنهج" Anti- Method المجادلة حول ماهية العلم، فالعلم، فى حالة اعتباره "هذا الشئ الذى يخوض فيه العلماء" سوف يتبدى بهيئة مؤسسة إيمانية ولو بغير إله مفارق. لأن العلماء بالطبع مشبعون بنظريات مسبقة تجعلهم أسرى لمناهج صارمة . وليس بوبر نفسه إلا واحداً من المتأثرين بحلقة فيينا التى جعلت من الصورة المنطقية : الوجه الوحيد للحقيقة! لكن هل ثمة إجماع على هذا التعريف للحقيقة؟! ذلك لأن الوضع المنطقى فى رأينا منهاج بين المناهج. وهذا ما أردنا أن نوضحه عبر فصول الكتاب. فالرجل يمتطي فى الصحراء الجمل أو الناقة، لكنه يركب السيارة فى المدينة، والقارب فى النهر، الطائرة حين يسافر بين القارات. ومن ثم فإن استخدام منهج معين مشروط بالصلاحية "اللوجستية" لبلوغ هدف محدد.
وعليه فقد كان مناسباً أن نستخدم منهج "لوسيان جولدمان" المعبر عنه بـ "رؤية العالم" لنبين فى تفكيكنا لمشروع توفيق الحكيم (الفصل الخامس) كيف كان مستحيلاً على مثل هذا الكاتب أن ينتج "تراجيديا" بالتوازى مع طبقته البورجوازية التى عجزت – لأسباب هيكلية وتاريخية – أن تتخلص من النمط شبه الإقطاعى للإنتاج، وبالتالى لم تنجح فى الإفلات من براثن أيديولوجيته (الدين) وفى حالة الكاتب المسرحى (ابن هذه الطبقة) توفيق الحكيم لا غرو أن يتوقف عند حدود النزعة الإيمانية (بعالم آخر) لا يتجاوزها . ومحال طبعا على من يصدق بوجود عالم آخروى يبرر مظالم هذا العالم الأرضى، أقول محال عليه أن يبدع التراجيديا التى تنفي كل وّهْمٍ، والتى تتعامل مع الوجود معاملة الند للند، وليس معاملة التابع الخانع لما هو ترنسندنتالى.
فى الفصل الثانى من الكتاب حاولنا أن نثبت كيف يستحيل كل تجديد فى الفكر العربى – حين يقتصر هذا التجديد على عالم الأفكار، معزولاً عن تغيير الشروط الاجتماعية السائدة فى الثقافة. وضربنا لذلك مثلاً بالمفكر الإسلامى السودانى "محمود محمد طه" الذى أراد أن يستبدل بالآيات المحرضة على قتال غير المسلمين، الآيات المكية الأولى الداعية إلى التسامح وحرية الاعتقاد، قال الرجل إن آلية النسخ (إلغاء الأحكام الشرعية) معمول بها فى القرآن، فلماذا لا نستخدم هذه الآلية بأثر رجعى، أى بإعادة الأحكام المنسوخة بآية السيف (وهى آيات مدنية جميعها تدعو إلى قتال المشركين) وبذلك نقدم الإسلام للعالم المعاصر فى صورة عقيدة سمحة، تتسق سماحتها مع ميثاق حقوق الإنسان. فكانت النتيجة إعدام المفكر طه!
وبعد أن عرضنا لمشروع الرجل فى تفاصيله قمنا بنقده انطلاقاً من آلية النسخ والنسخ المضاد والتي يمكن أن تمارس مرات ومرات بطريقة براجماتية وانتهازية، فضلاً عن كون هذه الآلية إنما كانت صالحة فحسب للعمل على أرض اقتصاد يقوم على الفتح والفتح المضاد، وليس على أساس اقتصاد رأسمالى سلعى إنتاجى. وما من شك فى أن اختلافاً جوهريا لا مندوحة من مراعاته بين عالم القرون الوسطى وبين العالم المعاصر الذى جعل من الكوكب قرية كونية يصعب فيها على من هو أقل إنتاجية بما لا يقاس أن يفرض شروطه الفكرية وثقافته المتخلفة على أصحاب الإنتاجية الأعلى.
وفى الفصل الثالث تناولنا قضية التنظيم السياسى لجماعة الإخوان المسلمين التى أنشأها حسن البنا 1928، منتبهين إلى خلو هذا التنظيم من تنظيرات للواقع المعيش (الخط السياسى) الأمر الذى اقتضى أكثر من أربعين عاماً تخبطت فهيا الجماعة بين محاولة تغيير نظام الحكم فى مصر بالقوة وبأسلوب الانقلابات ، وبين الانكماش فى حدود ممارسة "الدعوة" Calling بين صفوف البورجوازية الصغيرة، وعبر تحالفات غير مبدئية مع أحزاب الأقلية حتى فقد الأخوان المسلمون معظم مصداقيتهم لدى النخب السياسية القادرة على جعل التنظيم أكثر فعالية.
هنا رأينا مفكراً موسوعياً ، قرأ الفلسفة وعلوم الاجتماع بفروعه المختلفة، وقرأ أيضاً "الماركسية" قراءة خاصة! الأمر الذى دعاه إلى وضع مشروع ضخم: التراث والتجديد ، من العقيدة إلى الثورة (خمسة مجلدات) ومقدمة فى علم الاستغراب وغيرها من المؤلفات. رأينا فيها محاولة تلفيقية Eclectism للتوفيق بين الدين والعلم. ونقول تلفيقية لأنها وإن مارست نقد العلم إلا أنها لم تنتقد الطرف الآخر : الدين ، بل سعت إلى جذب العلوم جذباً عنيفاً للتأكيد على أن الإسلام سوف يسود العالم فى الخمسة قرون التالية. لماذا؟ نبوءة؟! تأثراً بنظرية دورية التاريخ؟! لم يوضح حسن حنفى سبباً لفكرته، كل ما حاول أن يؤكده هو أن الاستشراق كان التوطئة الثقافية لغزو الغرب للشرق، فلماذا – حسبما يقول – لا نقلب الآية ، فنجعل نحن من الغرب "موضوعاً" للدراسة لنا نحن "الذات" وبهذا نقدم نحن للأجيال القادمة مسوغات الانتصار على نقيضنا الغربى.
واضح طبعاً سيطرة الفكرة المثالية على عقل حسن حنفى، من حيث ابتعاده عن دراسة تفاصيل الإنتاج والاستهلاك على مستوى العالم (على نحو ما فعل المؤرخ الأمريكى بول كنيدى فى كتابه صعود وسقوط القوى العظمى من 1500 إلى 2000) ومن ثم فإنه وحتى الإخوان المسلمون لم يقبلوا بتنظيراته الخيالية تلك، بل ورفضوه جملة وتفصيلاً، وبلغ بهم الأمر حد تكفيره وإقامة دعوات حسبة ضده مما يؤكد أن كل محاولة لتجديد الفكر الدينى فى مصر والعالم العربى محكومة بالفشل، طالما تظل محاولات التجديد حبيسة عالم الأفكار، عاجزة عن الارتباط بحركة الجماهير الفعلية ، مقارنةً بما فعله لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية من نضال سياسى بالفن بالضد على قوى الاستغلال الكبرى فى عالمنا المعاصر ، بارتباط من لاهوت التحرر هذا بقوى اليسار، بالشيوعيين وبالاشتراكيين وباللبراليين فى إطار جبهات وطنية ديمقراطية ناضجة.
وفى الفصل الرابع، نعرض لمشروع المفكر المصرى لويس عوض، الذى يرمى إلى الانسلاخ من العروبة، بالعودة إلى "الهوية الفرعونية" واللحاق بالمركزية الأوروبية باعتناق "اشتراكية إنسانية" غير ماركسية!
وواضح أن هذا المشروع الثقافى إنما يصدر عن عقل مأزوم، تحركه هواجس الأقلية "الدينية" بأكثر مما يضيئه الارتباط العلمى بمسيرة التطور التاريخى. وآية ذلك أن العرب لا يمكن أن يكونوا مسئولين عن القطيعة الثقافية التى جرت بين المصريين (مسلمين وأقباطاً) وبين الحضارة الفرعونية. إذ أن الحضارة الفرعونية سقطت فعلياً قبل الفتح العربى بأكثر من ألف عام. أطاح بها احتكار مؤسسة الفرعون للسلطة وللملكية الشاملة لوسائل الإنتاج الرئيسية (الأرض الزراعية – المناجم – المرافق العامة …الخ) وكذلك احتكار الكهنة للمعرفة ، بعكس تشعيب الفلسفة لدى اليونايين القدماء، الأمر الذى أضاع على الأجيال التالية للفتح الفارسى 525 ق.م فرصة الاعتماد على علوم الطب والتشريح والهندسة والمعمار والإدارة التى دفنها الكهنة (مثقفو العصر الفرعونى) ضمن ما دفنوا من كنوز بعد احتلال قمبيز لبلادهم .
أما ما يتعلق باعتناق اشتراكية إنسانية، فالرد عليه يأتي من وجهة نظر علم الاجتماع الماركسى الذى عصف بأمثال تلك الأوهام البورجوازية الصغيرة، شارحاً كيف هي بعيدة كل ابعد عن رؤية الواقع بما هو عليه من انقسام طبقى لا غرو مؤد إلى تفجير الصراع بين رأس المال والعمل المأجور.
على أرض مغايرة، ينهض مشروع الناقد الحداثى جابر عصفور (خصصنا له الفصل السادس) الذى يدرك أن تحديث الثقافة العربية رهين بممارسة النقد، والنقد الذاتى. نقد التراث ونقد المعاصرة فى تماس مع اتجاهات ما بعد الحداثة Post-modernism ، الأمر الذى يحجز الناقد بين حدود العلم التاريخى، وبين القبول "التأويلى" لثقافة الأسطورة والدين، رغم البداية المنهجية (المادية التاريخية) التى انطلق منها الناقد . ولكن ما العمل والرجل يجلس على قمة السلم الوظيفىّ الثقافى (هو أمين عام المجلس الأعلى للثقافة) ومن المنطقى أن يحدد وجودُ المرء أفكاره، وليس أن تعيّن أفكارُه موقعه على الخريطة الطبقية. ومع ذلك فثمة استثناءات من هذه القاعدة (أندريه دى بلزاك فى رواياته) ونأمل أن يكون جابر عصفور إستثناءً جديداً ، لا سيما إذا بقى متمسكاً بالمنهج العلمى القويم حتى النهاية.
يتصور كاتب تفكيك الثقافة العربية ( = أنا ) فى الفصلين الأول والسابع أن التفكيك Deconstruction قائم فى كل شئ، وفى كل ثقافة ، يعمل عمله سواء وعى ذلك الناس أو لم يعوا. فالحضور Presence يواجهه غياب Absence، مثلما يقابل الإلكترون الموجب (فى كون لا نعرفه) الإلكترون السالب (فى كوننا الذى نعرفه) والدليل الفيزيائى على ذلك هو الثقوب السوداء، و مقابل النظم Systemsالكونية. وفى الحقل الثقافى فإن كل كتابة – كما يثبت دريدا – إنما هى محو Ereasure لكلمات لم تظهر فى النص. فالمسكوت عنه ، فى ثقافتنا العربية ، أهم بكثير من المقال Saying . تقول الثقافة العربية أنها خير أمة ، بينما واقع الحال يؤكد أن العكس هو الصحيح. لقد خرج العرب من التاريخ فعلاً. أصبح الإنسان العربى مقتنعاً بأنه مفعول به وليس فاعلاً، وها هى ذى القوى العظمى تعيد رسم خرائط منطقته، وتقسم دوله، وتسيطر على موارده الطبيعية ، وتهيمن على مصيره . كل هذا يحدث بينما تصر ثقافته على أنها تملك "الثوابت" التى لا يجوز المساس بها. والحقيقة أن تلك "الثوابت" المزعومة تخضع كل يوم لعوامل التعرية ، ويقوم الأغيار بنقضها وتفكيكها .
إن كتابنا يعرض مشروعه فى كلمة واحدة: لم لا نقوم نحن بتفكيك ثقافتنا غير الصالحة للعيش فى عصر ما بعد الصناعة (لم نقتحم نحن بعد عصر الصناعة وعصر الرأسمالية) لأننا إذا امتلكنا الشجاعة اللازمة للتفكيك بأنفسنا، فربما ننجح فى بناء ثقافة جديدة لا تقوم على نماذج سابقة التجهيز، وإنما بتفجير خاصية الخيال الإبداعى على كافة الأصعدة: الإنتاج المادى، والإنتاج العقلى على السواء.
5- سوسيولوجيا المسرح الشعرى
يتناول هذا الكتاب إشكالية غياب الدراما الشعرية فى مصر عبر العصور، أو حضورها حضوراً باهتاً ، غالباً ما كان يجهض وهو بعدُ جنين فى الرحم، أو يولد ميتاً ، أو إذا عاش لا يلبث إلا قليلاً حتى تتناوشه الأمراض والأوصاب، فلا يقدر على أداء وظيفته الاجتماعية والجمالية.
ولأن الدراما الشعرية – من وجهة نظر الكاتب – ليست مجرد حاصل جمع بين لونين أدبيين هما الشعر والدراما، بل هى لون متفرد بذاته، لا يقبل القسمة أو التجزئة، فلقد عمد هذا البحثُ إلى استقصاء ومناقشة آراء النقاد المعاصرين فيما أصدروه من دراسات حول هذا الموضوع. ومن ثم فلقد خصص الباحث الفصل الأول من هذا الكتاب لنقد النقد المسرحى الشعرى. وتحديداً للكتب التالية :
• الشعر المسرحى فى الأدب المعاصر – د. كمال إسماعيل
• مسرحية الشعر العربى الحديث فى مصر – د. أسامة أبو طالب
• الأسس النفسية للإبداع فى المسرح الشعرى – د. مصرى حنورة
• مسرح عبد الرحمن الشرقاوى – د. ثريا العسلى
• مسرح شوقى الشعرى – د. مدحت الجيار
• مقدمة فى نظرية المسرح الشعرى – د. أبو الحسن سلام
• الشعر المسرحى .. حاضره ومستقبله – د. محمد عنانى
وذلك فى ضوء النظريات والمذاهب الأدبية التى يتبناها أصحاب هذه الدراسات ، مثل النيو كلاسيكية ، ، والبنيوية، ومدرسة النقد الجديد، والشعرية (تيودورف) والشكلانية (شكلوفسكى)، وعليه فقد كان على الباحث أن يوضح أوجه المغايرة بين مناهج أصحاب هذه الدراسات، وبين المنهج الذى اختاره ( = المنهج السوسيولوجى) باعتقاد منه أن هذا المنهج الذى يجمع بين تحليل الوضع السياسى والأحوال الاقتصادية، والقيم الثقافية، وبين الشروط الموضوعية لإبداع الفن والأدب، إنما هو المنهج الاكثر حرصاً على أن يرى منابع وحدود الإشكالية بشكل بانورامى ، لا يغفل الشروط الموضوعية جنباً إلى جنب عدم اغفال الشرط الذاتى للإبداع.
ولا شك أن اتخاذ مثل هذا المناهج، إنما يحتاج إلى تأسيس نظرى، وإلى تحديد لمفاهيم حداثية، تفضى بدورها إلى نحت مصطلحات جديدة، أو حتى إلى تأكيد أو تداخل أو تخارج مع مصطلحات جارية فى سياق العلوم الإنسانية المعاصرة، ومن ثم فلقد حرص الباحث على أن يبدأ كتابه بما أسماه "قبل المفتتح" مخصصاً إياه لشرح المصطلحات الواردة فى تضاعيف الكتاب. أما المفتتح ذاته فكان مناسباً أن يخصص لتوضيح نظرية الكاتب، بمقدمتين لا بمقدمة واحدة، أطلق على الأولى عنوان : مقدمة مقترحة لكل فكر وفن، وعلى الثانية عنوان : مقدمة منهجية .. الطريق إلى المسرح الشعرى.
فأما المقدمة الأولى فتقرر أن الفكر والفن لا يمكن أن ينعزلا بحال من الأحوال عن حركة التاريخ، ولا يجوز لهما إطلاقاً أن يتجاهلا المواضعات المعاصرة من أنماط إنتاج ومذاهب، سياسية، وقيم ثقافية موروثة، بعضها جائز تطويره ، وبعضها ضرورى نقده ونقضه وتفكيكه.
وأما المقدمة الثانية فتجادل فى أن الطريق القويم الوحيد الذى لا غش فيه ، والمفضى إلى إبداع مسرح، ومسرح شعرى بخاصة، ليس طريقاً صنعته الطبيعة الصامتة، بل هو الطريق الذى يمهد له، ويعبِّده الفاعلون الاجتماعى فى سياق نضالاتهم الحياتية القاصدة صنع حياة كريمة، حرة ، لأنفسهم ولغيرهم فى آن. وبالنسبة للشعر العربى، فلقد أبانت هذه المقدمة الكيفية التى تحجر بها تطور هذا الشعر بالتوازى مع قمع الثقافة المناهضة لثقافة نظم الدولة الثيوقراطية سواء كانت هذه الدولة راشدية أم أموية، أم عباسية ، أم عثمانية… الخ وكان المثال الأنصع على ذلك محاصرة جهود المعتزلة فى تأسيس علم كلام (= لاهوت) علمانىّ يوظف الدين لخدمة الإنسان وليس العكس.
ولكن، لما كانت مصر – أهم وأكبر دولة عربية معاصر – سابقة فى الوجود (كدولة، وكمجتمع متحضر) للأمة العربية؛ فلقد كان ضرورياً أن يكرس الباحث فصلين كاملين لدراسة هذا المجتمع (الفرعونى / اليونانى / الرومانى / القبطى) لمحاولة فهم الأسباب التى أدت إلى تغييب فن المسرح، سواء فى ظل نمط الإنتاج الآسيوى (مؤسسة الفرعون) أو تحت رياح التغيير التى هبت على البلاد بدخول الثقافة الهيلينية (لماذا أحجم شعراء الإغريق المتمصرين أمثال أبولونيوس، وثيوكريتس، وكاليماخوس عن غرس بذور الدراما الشعرية فى موطنهم الجديد؟!) ، وكذلك لمحاولة فهم الأسباب التى دعت الرومان لبناء مسرح كامل بالإسكندرية جنباً إلى جنب خنق كل مشروع لتأليف دراما شعرية. ولعل الوعى بأن الدراما ليست إلا تجلياً من تجليات الحياة الديمقراطية سياسياً واجتماعياً ، أن يفضى بنا إلى نتيجة ذات أهمية قصوى، تلك التى تقول أن بلداً محتلاً يستحيل على أهله أن يشاركوا فى إدارته، فضلا عن الإبداع الحر فيه على مستوى الفن والأدب.
نفس هذه النتيجة تمتد إلى مصر القبطية ، إذ بالرغم من أن المسيحية ، وإن استخدمت من قبل الآباء الرهبان كوسيلة لمقاومة الإمبراطورية الرومانية (مثلاً مؤتمر خلقدونيا 325 ميلادى) إلا أنها – أى المسيحية المصرية – لم تنج من الأثر المدمر، الموروث من سلطة الدولة المركزية، والذى يمكن أن نسميه بالطغيان الشرقى Oriental disputism سواء كان فلسفة دولة قائمة ، أو كان فلسفة دولة قادمة، فكان حصاد هذا الطغيان انتشار التعصب الدينى (ويتبدى ذلك فى اغتيال الفيلسوفة اليونانية المصرية هيباتثيا Hypatia عام 415 ميلادى) الأمر الذى قضى على فلسفة الحوار فى المجتمع المصرى، وما من شك فى أن غياب الحوار – كأداة أساسية للعمران – لا بد مؤدٍ إلى غياب الدراما الشعرية.
ومرة أخرى يعود الباحث إلى الشعر العربى، مجادلاً حول قدرته الهيكلية على بناء الدراما، بينما هو نتاج ثقافة بدوية بالأساس ، لم يغير منها دخول العرب الفاتحين إلى بلاد ذات حضارات مدنية كفارس وبلاد الشام، وبلاد النهرين و… مصر . وما ذلك إلا لاعتماد العرب الفاتحين لسياسة نزح خراج البلاد المفتوحة لصالح المركز اليثربى، أو الدمشقى، أو البغدادى (نسبة إلى بغداد) وفيما يتعلق بمصر فلقد بات واضحاً أن القطيعة الثقافية التى كان الكهنة المصريون سببا فيها (بعزلهم العلم والمعرفة عن جموع الشعب) كانت قد تجذرت فى بنية المجتمع، إلى الدرجة التى حرضت المصريين على قبول ثقافة الوافد الفاتح، دون مقاومة حقيقية، ولولا بعض الانتفاضات الفلاحية القليلة، لكان جائزاً القول بأن "مصر لمن غلب" حسب المأثور الشائع عن عمرو بن العاص. وعلى أية حال فإن غياب المسرح الشعرى عن مصر طوال العصور السابقة على الفتح العربى، إنما كان طبيعياً أن يستمر وأن يمتد خلال العصور التالية، لا سيما وأن ثقافة العرب الفاتحين لم تكن تحمل فى بنيتها أية مؤشرات على إمكانية الحوار بين الحاكم والمحكوم. وبانعدام المؤسسات السياسية الشعبية، لم يعد متاحاً أمام الشعراء إلا تبنى أغراض الشعر الغنائى من مدائح للسلطان أو هجاء لأعدائه، أو غزليات ذات حياء (أو فجور) أو وصف للطبيعة سطحى باهت، أو أخوانيات أو خمريات… الخ.
بيد أن الأمر سوف يختلف قليلاً فى العصر المملوكى، حيث تضطر الدولة إلى بيع بعض الأراضى الزراعية للناس، ولأولاد الناس ( = أبناء الجوارى) للخروج من أزماتها المالية المتكررة، والناجمة عن فقدان ممتلكات الدولة ، وتحويل طرق التجارة الدولية، ومن قبل ضياع البحر المتوسط والبحار الشرقية، وخروجها عن سيطرة العرب المسلمين. فى هذا العصر ظهر جنين للمسرح الشعرى ممثلاً فى بابات ابن دانيال وغيره. لكن ذلك لم يكن كافياً بالطبع لتأسيس مسرح شعرى بمعنى الكلمة.
كان على مصر أن تنتظر قروناً ، قبل أن تبدأ حركة التحديث بمقدم الحملة الفرنسية أولاً، وثانياً بالمشروع الذى أسس له محمد على باشا الكبير ( = التصنيع) فذلك المشروع أدى فيما لا يزيد على خمسين عاماً إلى تغييرات جذرية فى علاقة الإنسان بالأرض، وتالياً بالدولة ، إذ بزغت طبقة ملاك الأرض الزراعية فى عهد سعيد، وإسماعيل، وما لبثت حتى طالبت بالمشاركة فى السلطة، فانفجرت الثورة المسماة بالعرابية، وتأسست المجالس الشعبية والنيابية ( حتى فى ظل الاحتلال، الذى ووجه بمقاومة حقيقية مبعثها المصالح المحددة فى أطر سياسية وتنظيمية) فكان طبيعياً أن يولد المسرح والدراما الشعرية جنباً إلى جنب، خاصة مع قيام الثورة الشعبية الأولى (ثورة 1919) بقيادة البورجوازية المصرية.
إن التحليل السوسيولوجى لمولد ونشأة هذه الطبقة، المنزلقة من بطن الإقطاع، والوارثة لإيدلوجيته التراتبية؛ ليوضح كيفية ظهور المسرح الشعرى، تقليداً للغرب من ناحية ، وصداماً ذاتياً مع الثقافة القومية المعادية بطبيعتها لمبادئ المساواة، وقبول الآخر ( = الطبقات الكادحة) الأمر الذى حاصر هذا الفن الوليد، ومنعه من النمو الحر، وهكذا رأينا شوقى وحافظ إبراهيم وعلى أحمد باكثير يخضعون "حبكات" أعمالهم للرقابة الداخلية، مما طبع هذه الحبكات بالطابع الاصطناعى Artifical بما يساوى حكم الإعدام على أعمالهم ذاتها.
قد يختلف الحال قليلاً مع عبد الرحمن الشرقاوى، لارتباط فكر الرجل بالنزعات اليسارية التى وجدت سبيلها إلى عقول الصفوة، خاصة بعد هزيمة الفاشية فى الحرب، وصعود الاتحاد السوفييتى ومنظومة شرق أوربا، وتزايد المد الثورى لحركات التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا. ومع نجاح القوى الوطنية فى الإطاحة بالنظام الملكى فى مصر فإن مسرح الشرقاوى وجد أرضاً ممهدة لتناول قضايا الحرية، والمساواة، والدعوة إلى الإشتراكية ، فانطلق يركض فيها، وكاد أن يحقق مراده، لولا ارتباطه العضوى بالقيادة ذات الطابع العسكرتارى ممثلة فى ناصر، ثم فى السادات.
أما صلاح عبد الصبور فقد تجاوز موقف الشرقاوى إلى موقف المعارضة "الشعرية" للنظام السياسى، ومن ثم نجح فى تقديم أعمال رائدة بحق ، نجاحاً لم يعكر عليه سوى مشاعر الإحباط التى يتغذى عليها المثقف ذى الانتماءات الاجتماعية والثقافية "المتبرجزة" فكان أن اخترمته الأساطير السياسية وعلى رأسها أسطورة "المخلص" ، المهدى المنتظر، أو المسيح الذى سيأتى ليقاتل لا مع الناس، وإنما بديلاً عنهم !
وفى نهاية البحث ، فإن صاحبه - هكذا يقول – يحاول أن يقدم مسرحاً شعرياً مختلفاً فى جذوره وتوجهاته ، بل وفى أدواته الفنية، بيد أن الحكم على ذلك منوط بالنقاد والقراء، اليوم أو غداً.
ثانياً : المسرحيات النثرية :
1- سفينة نوح الضائعة:
في أعقاب أزمة خليج الخنازير 1962 ، استقر رأى مجموعة من الأصدقاء – علماء ومثقفين غربيين وشرقيين- على النزوح بعائلاتهم إلى جزيرة منعزلة ، تحسباً لقيام حرب نووية فى أى وقت .
فكان أن تخلصوا من أملاكهم ، و بثمنها رحلوا ومعهم خلاصة الحضارة الإنسانية : البذور القابلة للزرع ، و الأجهزة الملائمة لتصنيع المنتجات الضرورية ، و… الكتب .
وقد أطلقوا على سفينتهم أسم "سفينة نوح" حيث حملتهم إلى عالمهم الجديد ، منعمين بالأمل ، فلقد كان بينهم شاب وشابه عاشقان ، هـُيئـَا ليكونا آدم وحواء جديدين .
وبعد وقت قامت الحرب النووية الكونية فعلا . فدمرت العمران وأما سكان الجزيرة فنجوا من الموت ، وان حاقت بهم توابع الإشعاع النووى فقضت على قدراتهم الجنسية جميعاً إلا واحداً . وحول هذا الشخص دار صراع البقاء .
انكشف العلماء والمثقفون عن رجال عاجزين ليس جنسياً فحسب بل وفكرياً أيضا . وانكشفت النسوة عن "أمازونيات" يتقاتلن فيما بينهن للظفر بارضاء الشهوة حسب. وانتهى الشاب العاشق إلى الفرار بالسفينة ليضيع فى عرض البحر. وأما حبيبته فقد روعت بمرأى أمها (العربية المسلمة) وهى تضاجع الفحل الذى كان مقدراً أن يكون لها زوجاً بديلاً عن الحبيب الضائع، فلا تملك الفتاة إلا الانتحار . لتبقى الجماعة دون أمل فى التكاثر إلا عن طريق الزنا.
وهكذا يستبين أن الإنسانية لا تستطيع إطلاقاً أن تبدأ من نقطة الصفر (النظيف) . فنقطة الصفر هذه محملةٌ فى الواقع ،ومشبَّعة بكل الخبرات السلبية قبل الإيجابية للتاريخ.
فلا فرار من التاريخ بحال من الأحوال . وهو ما يشير إلى أن البشر مهددون بالفناء والانقراض، ليس بسبب اختراعهم لأسلحة الدمار الشامل فحسب، بل ولقصور منظوماتهم القيمية عن تحقيق السلام فيما بينهم وجلب الطمأنينة للقلوب. ولسوف يتكرر هذا المعنى فى الأعمال اللاحقة للكاتب سواء فى أعماله الأدبية أو الكتب النقدية.
2- الحلم الطروادى :
هى فرقة مسرحية تخصصت فى عرض الكلاسيكيات الراقية ، فانصرف عنها الجمهور إلى العروض الهزلية Farces والميلودرامات الفاقعة، فأغلقت أبواب مسرحها. فى نفس الوقت استطاع شاب وسيم وثرى أن يغوى زوجة صاحب الفرقة (هو شيخ والزوجة صبية مليحة) فهربت معه.
اختار صاحب الفرقة العزلة يجتر فيها أحزانه. غير أنه يفاجأ ذات يوم بممثلى فرقته يدخلون عليه فى ثياب أبطال "الألياذة" يكلمونه كما لو كان ا لملك "منيلاوس" طالبين منه أن يعلن الحرب على طروادة حتى يثأر لشرفه ويسترد زوجته و … مسرحه.
أما هو فيسخر منهم ، موضحاً أن عصر البطولات ولىّ وانصرم إنهم ليس "منيلاوس" وهذا الممثل الذى يخطئ فى قواعد اللغة ليس البطل العظيم "آخيلوس" . وذاك الآخر الساذج ليس هو "أوليس" الداهية. والذى يدَّعى أنه "ترزياس" العرَّاف لا يعرف شيئاً عن الغد. بينما هو – صاحب الفرقة – يعرفهم جميعاً ، ويعرف أن قدراتهم المحدودة هى التى جعلت الجمهور ينصرف عن أعمالهم، كذلك – يقول لهم – إن الثأر ممن خطف الزوجة لا يتفق ومبادئ الأخلاق الحميدة . لنسامحه إذن فينتهى الأمر.
بيد أنهم لا يتوقفون ، إنهم مندمجون فى أدوارهم – يعللون موقفه باضطراب عقلىّ نزل به من فرط الصدمة. يقولون: لا بأس ، فما أن تعلن بدء القتال حتى يعود إليك عقلك، فتسترد شخصيتك "الحقيقية" كملك وكبطل.
يفاجئ الجميع بالشاب الوسيم الثرى، يدخل عليهم وفى يده الزوجة الفاتنة. جاء يقول إن طروادة انتظرت طويلاً أن يبدأها أبطال الإغريق بالحرب بمنطق الشرفاء. وحين سئمت طروادة الانتظار فلقد حضرت بنفسها إليهم، فهيا للبراز.
عندئذ يكتشف صاحب الفرقة أن ذلك الشاب هو من دبر تلك التمثيلية إمعاناً فى إذلاله. فالشاب بطل فى لعبة "السلاح" ، والمبارزة التى يدعوه إليها معروفة نتيجتها سلفاً . لقد دفع نقوداً للممثلين ليستدرجوا الشيخ (الذى كان قد ارتدى ملابس الملك الأسطورى مسايرة لهم) وبذلك يُصور الأمر للشرطة وكأن الشيخ بتأثير الاندماج فى دوره قد جن فحاول قتل غريمه الذى اضطر للدفاع عن نفسه بشهادة الممثلين.
هنا لجأ الشيخ إلى الحيلة (العصرية) فأبدى استعداده للصلح. وراح يلقى خطبة بليغة عن ضرورة التسامح. كذلك انتقد نفسه أمام الجميع .. فكيف يسمح شيخ مسن لنفسه أن يتزوج شابة فى مثل عمر ابنته. الأولى بها أن تتزوج شاباً مثلها. إن الحرب لم تحل يوماً مشكلة، بعكس السلام الذى به تحل جميع المشكلات.
يتأثر الشاب الوسيم بما سمع، فيعترف بأنه فعل ما فعل تحت ضغط نفسى هائل. مفاده أنه أراد من سنوات أن يكون مؤلفاً ، فكتب نصاً عرضه على صاحب الفرقة ، فكان أن هزأ منه مؤكداً أنه نص تافه، وأن مؤلفه خال من أية موهبة حقيقية. بعدها حدث أن ورث هذا الشاب ثروة كبيرة فقرر أن يفيد منها بالإنفاق على تلك التمثيلية ليثبت لصاحب الفرقة أن أخطأ فى الحكم عليه.
هنا يعترف الشيخ بموهبة الشاب ، يفتح له ذراعيه فيلقى الفتى بنفسه بينهما. حينئذ يستل الشيخ خنجره من غمده ليدفنه فى قلب غريمه قائلاً : لقد جاء ليقتلنى فقتلته، كان دفاعاً شرعياً عن النفس، وأنتم – أيها الممثلون الأغبياء – شهود على هذا بالطبع.
3- غيط العنب 1882 :
فى منتصف القرن التاسع عشر، مات أحد التجار ويدعى " القمحاوى" تاركاً وراءه ثروة طائلة. استأثر بالجانب الأكبر منها إبنه البكر "عثمان" وقنع الابن الأصغر "دسوقى" بالفتات الذى أُلقى إليه. أما الابن الأوسط "حجازى" فلم يقبل بالقسمة الظالمة فقتل أخاه الأكبر "عثمان" فى مشاجرة بينهما، ثم مات هو نفسه فى السجن بعد ذلك.
كانت "آسيا" أرملة عثمان شخصية قوية، فاستمسكت بالمال، واشترت به حقلاً هو "غيط العنب" مستفيدة من صدور اللائحة السعيدية عام 1852 والتى أباحت امتلاك الأراضى الزراعية لأول مرة تاريخ مصر .
كان الزهو بالملكية لدى آسيا جارفاً ، لكنه كان مشوباً بالخوف من المعدمين. فاستقدمت بعض أقاربها من الصعيد ليعيشوا بجوارها كمزارعين وحراس أمن شخصىّ لها ولابنها الوحيد "راجى" .
وحرصاً على هذا الابن ، سعت آسيا لإبعاده عن أعمامه وأبناء أعمامهم (تدعوهم هى بالقتلة) فمكث أعواماً يتعلم فى فرنسا ، وأخيراً عاد شاباً ناضجاً متعلماً، فراح يفكر فى الزواج من ابنة عمه "عزيزة" فهى فتاة جميلة، تعلمت فى المدارس الأجنبية التى أنشئت فى عهد الخديوى إسماعيل، وفى نفس الوقت تأثرت بأفكار الثائر الشعبى عبد الله النديم، فكرست جهودها لتعليم بنات الشعب بعد أن ظلت فترة تعلم أميرات العائلة المالكة وكادت تظفر بوظيفة (وصيفة) الوظيفة التى تمناها لها أبوها دسوقى.
فى البداية لم تستجب عزيزة لطلب راجى أن يتزوجها ، فلقد كان قلبها معلقاً بحب ابن العم الثالث، وهو شاب يدعى "يوسف" لم يتعلم ، فاضطر للعمل سائقاً لعربة يجرها حصان (الحنطور – وسيلة المواصلات العامة فى هذا العصر) ونتيجة للتفاوت الجديد الطبقى بين عزيزة ويوسف ، وبسبب إهانة وُجهت إليه منها أسرع بالزواج من جارته عيشة لينجب منها طفلاً.
ويوسف يقيم وزوجته فى منطقة كوم الدكة الشعبية، له صديق يدعى الشيخ سليمان، شاب عضو فى حزب الثورة العرابى، كما كان له صديق ثالث يدعى "السيد العجان" يعمل على عربة يجرها حمار.
وحدث أن تشاجر السيد العجان مع أحد زبائنه: رجل مالطىّ شرس سكير، فكان أن قتله المالطى، فثارت ثورة الأهالى واندفعوا يبحثون عن القاتل الذى احتمى بحى الأجانب بالمنشية. فقام الأجانب المسلحون بالتصدى للأهالى وأطلقوا عليهم النار فقتلوا وجرحوا بعضهم فيما يعرف بمذبحة الإسكندرية 11 يوليو 1882 . وكان هذا اليوم هو المحدد لزفاف عزيزة إلى راجى. لكن عزيزة هرعت وهى بثياب الزفاف إلى كوم الدكة بحثاً عن حبيبها يوسف.
ولأجل ايقاف المذبحة – التى أدرك أعضاء الحزب العرابى أنها دبرت لمنح الأسطول الإنجليزى فرصة التدخل – أسرع الشيخ سليمان بتحرير رسالة إلى قائد حامية الإسكندرية يحثه فيها أن يطالب عرابى باشا – وزير الحربية آنذاك – بفرض الأحكام العرفية كى يستبب الأمن، وحمَّل هذه الرسالة ليوسف. ولكن يوسف الذى كان مستثاراً لمصرع صديقة السيد العجان، وجد نفسه أمام المالطى فاندفع إليه ليكبله، وكان راجى قد أسرع خلف عزيزة فتلقى طعنة سكين المالطىّ خلال هذه المشاجرة ، فحمله يوسف على حصانه ليعيده إلى بيته فى غيط العنب.
تعتقد الأم أن يوسف قتل ابنها، وأن عزيزة العروس الهاربة قد ساعدت القاتل على ذلك . فأخذت مسدسها واندفعت إلى حيث ظنت أن العاشقين يذهبان (منطقة تعريشة العنب كانا يلتقيان فيها صبيين.
والحقيقية أن يوسف وعزيزة ذهبا فعلاً إلى هذه المنطقة ولكن لسبب آخر . ذلك أن الرسالة الخطيرة التى كان يوسف يحملها سقطت منه أثناء المشاجرة مع المالطى ، فالتقطتها عزيزة وأدركت خطورة ما بها . أخبرت الشيخ سليمان بذلك وأكدت عليه أن يرسل وراءها يوسف إلى التعريشة، فيوسف وحده من بإمكانه اختراق حصار شرطة المحافظة (بحكم مهنته) للوصول إلى قائد الحامية فى أطراف المدينة.
وفى التعريشة يلتقى أبطال المأساة : آسيا تقتل يوسف، والزوجة عيشة تقتل عزيزة برصاصة فى قلبها، حيث كانت الرسالة مخبئة فى الصدر، فتمتلئ الرسالة بالدم. الآن لا يمكن للرسالة أن تصل ، وإن وصلت فلا يمكن أن تقرأ . وحين يكشف الشيخ سليمان هذه الحقائق باكياً أمام القاتلتين يكون العرس الدموى قد أكتمل. ومن ثم بدأ النهار اللعين الذى سينتهى باحتلال الإنجليز للإسكندرية، وبعدها لمصر جميعاً.
ثالثاً : المسرحيات الشعرية :
1- الملك لير :
لا يمثل هذا النص مجرد ترجمة لمسرحية شكسبير، بل هو فى تقديرى تناولٌ شعرى عربى لذات الموضوع. فالحدث هو الحدث، والشخصيات نفس الشخصيات، إنما الجديد هو تلك الصياغة المكثفة الكاشفة عن أزمة الفلسفة المثالية فى عالمنا العربى، الفلسفة المسئولة عن الكوارث السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ذلك أن الأمة العربية لا تفتأ تتمسك بما نسمية "الثوابت" غير عابئة بالواقع المتغير دوماً. والثوابت هذه هى أيديولوجيات الانقسام الطبقى الحاد . مثلاً آخر التطلع إلى الماضى "الذهبى" ومحاولة إعادته كما هو دون نقد. وكذلك التعلق بأسطورة المخلص (المهدى المنتظر ، الزعيم الأوحد ..الخ) الذى يحل محل الجماهير فى تحقيق آمالها!
هكذا تكون الأمة العربية وكأنها العملاق الغبى "بروكروست" الذى صنع سريراً يضع فيه ضيوفه، فمن رآه أقصر مطه ليطابق السرير ، ومن رآه أطول حز رأسه أو بتر قدميه، المهم أن يطابق الرجلُ السريرَ لا العكس! فالتاريخ العربى – إذا استعرنا نظرة هيجل – هو الملك لير، فلقد سمح هذا التاريخ لأبنائه أن ينقسموا دولاً، وخص البعض بالثروة (النفط) دون البعض، الأمر الذى أوقع البغضاء والحسد بينهم. وعلى المستوى السياسى فقد قسمَّت مصر الناصرية ثروتها الرمزية (السلطة) بين المؤسسة العسكرية (المشير عامر) وبين التنظيم الطليعى (السرىّ!) وحرمت منها القوى الشعبية ، وطولب كل فرد بالرقود المتطابق فى سرير بروكرست (الاتحاد الاشتراكى – حزب السلطة الوحيد) وإلا فالحرمان والنفى والتعذيب فى المعتقلات.
لا عجب إذن أن تهزم المؤسسة العسكرية أمام إسرائيل (جوزيل) ولا دهش أن يتبخر التنظيم السياسى فيما بعد (ريجن) بينما تقف القوى الشعبية (كورديليا) التى نبذت من قبل تدافع عن الرمز السياسى : الأب البونابرتى (ناصر) حتى إعادته إلى السلطة بعد تنحية فى 9 حزيران 1967.
بالطبع لم نطرح هذا الفكر خلال النص المترجم مباشرة، وإنما حاولنا إشاعة هذه المعانى عبر اللغة بدلالاتها المتعددة ، لا سيما الاستعارة، فضلاً عن موسيقى التفعيلات العروضية (الرجز والوافد) التى تشى بجو نفسى هو جزء لا يتجزأ من مأساتنا الحاضرة الممثلة فى الحزن والإحباط والعجز عن الفعل.
2- ريم على الدم :
لا تعتمد هذه المسرحية الشعرية على مسرحية يوربيدوس Euripidos الشهيرة بقدر ما تعارضها وتتجاوزها. ذلك أن مسرحيتنا تبدأ بعد أن قتلت ميديا Medee طفليها انتقاماً من زوجها "جاسون" لخيانته . ولقد فرت ميديا وراح جاسون يتبعها ليقتص منها. ومن هنا نبدأ نحن عملنا.
رجل يدعى "باهر" يلتقى امرأة تدعى "ريم" على شاطئ بحر أمام مدينة لا يعرف لها اسم. ويكتشف الاثنان أنهما فاقدان للذاكرة. غير أن ريم تبدو مستبشرة بهذا الحال . فلعلهما يبدآن الحياة من نقطة الصفر، وتلك نعمة كبرى فيما ترى.
المدينة يحكمها ملك يدعى "الراضى" وهو راض بالفعل عن حياته وعن أسلوب حكمه دون التفات إلى معاناة الشعب . هنا تقدم ريم صاحبها باعتباره الرجل القادر على حل مشكلات الجماهير : الرى ، الصرف ، الصحة ، التعليم ، إعادة توزيع الثروة بشكل عادل .. ألخ وهو ما يعنى استتباب نظام الحكم واستمراره فى البقاء . والملك يقتنع فيعين باهر خبيراً للدولة. ورغم أن باهر كان قد تزوج ريم وأنجب منها طفلين فى هذه الفترة ، إلا أن الأميره سالي ابنة الملك تكتشف سر ريم (عبقريتها فى حل المشكلات) فتحرض والدها على السعى لتزويجها باهر، قاصدة بذلك فصله عن مصدر قوته . وبالفعل يتزوجها باهر الذى بدأ يتطلع إلى السلطة منفرداً عن شريكته ريم.
فى ليلة العرس تعود الذاكرة إلى ريم، فتدرك أنها هى ميديا وأن زوجها باهر ليس إلا جاسون . وها هو ذا يخونها من جديد. وأما هى فتصارع ذاتها عبثاً . لا مفر من قتل الطفلين ، فبهذا الفعل تثأر لأنوثتها الجريحة، بل وتقضى على منظومة القيم الذكورية التى تفترض فى المرأة الرقة والضعف كما لو كانا جزء من طبيعتها البيولوجية ، مع أن الحقيقة غير ذلك، بدليل أننى سوف أذبح الطفلين مرة أخرى.. هكذا …
ولكن ما ذنب الطفلين ؟! هكذا يصرخ أحد المتفرجين ، لتبدأ مناقشة عاصفة. لماذا نقضى على إمكانات المستقبل بإعادة إنتاج الماضى؟ أذبح أو لا أذبح؟ تلك هى المسألة .هنا يقترح المتفرج على زملائه المتفرجين أن يصوتوا فى اتجاه القرار ، فلا تنفرد به ميديا. هكذا تنتهى المسرحية ، أو قل لا تنتهى.
3- السلطانة هند :
فى أواخر القرن التاسع الهجرى، وثب المملوك برقوق على عرش مصر، ثم مات مخلفاً إبنه فرج سلطاناً على البلاد ، وهو بعد صبى فى الثالثة عشر من عمره، مما أطمع فيه الأمراء المماليك. وكانت "هند" زوجةُ للأمير "شيخ المحمودى" امرأة طموحة فأخذت تحرض زوجها للانقضاض على السلطان الصغير (رغم كونها عمته!) وبعد إباء ورفض شديدين خضع المحمودى لإرادتها حيث قام باغتيال السلطان حين كان ضيفاً على قصره.
أصبحت هند سلطانة بجانب زوجها القاتل، والجريمة تجر إلى الجريمة، هكذا راحت الأحداث تتصاعد حتى تصل إلى ذروتها حيث يغتال السلطان المحمودى نجله إبراهيم ليتقى ما حسبه طموحاً فى الفتى المسكين .كذلك تتسبب هند فى فقدان "شادن" زوجة إبراهيم لبصرها ثم سقوطها فى هوة سحيقة فى جبل المقطم بمشاركة امرأة شريرة هى "طريفة" التى كانت عضواً فى تنظيم سرى (هو القابال Cabal) هدفه تخريب البلاد والعباد.
والمسرحية تكشف عن بُنية التآمر داخل الطبقة الحاكمة ، ومحاولة البعض تحطيم هذه البينة عبثاً . من هؤلاء البعض : إبراهيم الابن الذى اكتشف جريمة أبيه وأمه ، وكذلك نرى "شادن الوديعة الحالمة بعالم نقى طاهر. وربما نرى شيخ المحمودى نفسه واقفاً – رغم جريمته الشنعاء – على الحافة بين الأبرار والفجار.فلقد كان الرجل (مثل ماكبث) مستعداً لأن يكون باراً صالحاً . لولا أن البُنية Structure أجبرته على ألا يكون فاعلاً بل مفعولاً به، ومن ثم يموت قتيلاً بيد أحد أعوانه الطامحين مثله إلى السلطة. أما "هند" فتبقى إلى النهاية وحيدة بلا زوج ولا ولد كأنها وحش متفرد فى الصحراء.
أردنا أن نشير بهذا المصير التعس لأسرة حاكمة ، إلى اقتراب نهاية عصر بأكمله. قام أساساً على اغتصاب السلطة ، ومكَّن لحكمه بعقلية التآمر والاغتيالات ، مفسحاً بذلك الطريق للتآمر الخارجى (القابال) الذى مهد لنبت بائس آخر ، هو احتلال العثمانيين لمصر بعد اقل من قرن على هذه الأحداث الدامية .
ولسوف تظل مصر رازحة تحت نير هذا الاحتلال البشع لاربعة قرون، قبل أن تبدأ حركتها نحو العالم المعاصر فى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين.
4- ليلة زفاف إلكترا :
اغتال أوجست ابن عمه أجاممنون، واغتصب عرشه وتزوج بأرملته الملكة كليتمنسترا. فكان أن أبعدت إلكترا ابنة الملك القتيل شقيقها الصبى أوريست إلى مكان ناء سرى، كى يتربى ويكبر بعيداً عن عيون السلطة القمعية الجديدة . منتظرة ذلك اليوم الذى يعود فيه فتياً قوياً ليثأر من قاتله ويعيد إليهما العرش المغتصب.
بيد أن المخلص لا يعود . وإمعاناً فى إذلال إلكترا يجبرها أوجست ومعه أمها على الزواج من فلاح فقير ، وعلى العيش معه فى كوخ متهدم يحيط به الحراس ليل نهار.
وهذا الفلاح – بحكم ثقافته المذعنة وقبولة بالفوارق الطبقية كما لو كانت فوارق بيولوجية – نراه عاجزاً عن التطلع إلى الأميرة كزوجة وكامرأة . وبالتالى تعجز إلكترا عن التواصل الإنسانى معه على كافة المستويات.
فى هذا الجو الخانق المحاصر، تسعى إلكترا إلى تغيير واقعها بالعزف على أوتار الفن –القاسم المشترك بين الناس جميعاً – فتبدأ العزف على تلك الأوتار بأصابع الخيال المجنح. فتقنع الزوج بمشاركتها فى تمثيل مسرحية (من تأليفها) تقع أحداثها فى زمن تال! فإذا كان المستقبل "أوريست" لا يجئ ، فلماذا لا نذهب نحن إليه . هكذا تقول إلكترا.
تبدأ المسرحية الداخلية برؤية الفلاح، وقد صار اسمه "واعد" يلتقى معارضاً عصرياً (زمنه القرن العشرون) تقوم إلكترا بدوره. يغوى "واعداً" بكتابة رواية يفضح فيها ممارسات الحكم الشمولى (فنحن الآن فى مكان يشبه الدولة الستالينية أو الدولة الناصرية فى مصر) والمعارض العصرى سوف ينشرها ويوزعها تمهيداً لهز دعائم هذا الحكم الاستبدادى البغيض.
حين يفعل "واعد" ذلك نراه وقد اعتقل بواسطة المع
معرف الكاتب-ة: 1389
الكاتب-ة في موقع ويكيبيديا
- (3)
الفيزياء الحديثة وتجديد الخطاب الديني
مهدي بندق
2015 / 8 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- (6)
العلم والدين على خلفية النسبية والكوانتم
مهدي بندق
2015 / 5 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- (7)
الملحدون والمؤمنون وفلسفة النسبية والكوانتم - مصححاً
مهدي بندق
2015 / 2 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- (8)
الملحدون والمؤمنون وفلسفة النسبية والكوانتم
مهدي بندق
2015 / 1 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- (10)
عن الإلحاد والحرية وما وراء العلم
مهدي بندق
2014 / 10 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (13)
أنطولوجيا القصيدة الشومانية
مهدي بندق
2014 / 5 / 1
الادب والفن
- (14)
إستدراج مصر للحرب في أفريقيا
مهدي بندق
2014 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية
- (15)
قصيدة : لإيلافكم رحلةَ الوجود والعدم
مهدي بندق
2014 / 1 / 21
الادب والفن
- (16)
موت سهيلة بين الدنيوي والمقدس
مهدي بندق
2013 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية
- (17)
يناير ويونيو .. ثوار ولا ثورة
مهدي بندق
2013 / 9 / 10
مواضيع وابحاث سياسية
- (21)
المهام العاجلة لمؤرخينا الجدد
مهدي بندق
2013 / 2 / 28
مواضيع وابحاث سياسية
- (26)
طريق يناير إلى الاشتراكية أو غيرها
مهدي بندق
2012 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية
- (27)
الرئيس رشدي بين دراكولا وكافكا
مهدي بندق
2012 / 12 / 13
مواضيع وابحاث سياسية
- (28)
ضرورة أن يأخذ السلفيون وقتهم
مهدي بندق
2012 / 11 / 28
مواضيع وابحاث سياسية
- (30)
اليسار المصري صاعد ولكن بشروط
مهدي بندق
2012 / 11 / 7
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
- (31)
هل يترك المثقفُ شعبه غافلاً ؟
مهدي بندق
2012 / 11 / 2
مواضيع وابحاث سياسية
- (33)
المجتمع المصري ورُهاب الحداثة
مهدي بندق
2012 / 10 / 11
مواضيع وابحاث سياسية
- (34)
محاولة لتجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة
مهدي بندق
2012 / 9 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (35)
الخليفة القادر وتأسيسية الإرهاب الفكري
مهدي بندق
2012 / 9 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (36)
الوعي في أقصى درجات الاحتمال
مهدي بندق
2012 / 9 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (38)
الإيمان لا يحتاج إلى إعلان (2)
مهدي بندق
2012 / 8 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (40)
تجديد الخطاب الديني على خلفية الفيزياء الحديثة
مهدي بندق
2012 / 8 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- (41)
الجيش المصري ليس فيلقا ً إيرانيا ً أو كتيبة أمريكية
مهدي بندق
2012 / 7 / 26
مواضيع وابحاث سياسية
- (43)
هل تطلب حماس سيناء كوطن بديل ؟
مهدي بندق
2012 / 6 / 29
مواضيع وابحاث سياسية
- (44)
أنور عبد الملك وتغيير العالم
مهدي بندق
2012 / 6 / 27
مواضيع وابحاث سياسية
- (46)
أيام البين السبعة
مهدي بندق
2012 / 6 / 13
الادب والفن
- (48)
الجذور المعرفية للفكر الفاشي
مهدي بندق
2012 / 5 / 29
مواضيع وابحاث سياسية
- (49)
ديمقراطية بلا ديمقراطيين
مهدي بندق
2012 / 5 / 24
مواضيع وابحاث سياسية
- (50)
إلى متى نتقبل ثقافة الأساطير ؟
مهدي بندق
2012 / 5 / 21
مواضيع وابحاث سياسية
.. روسيا تلوح بتحرك خطير بسبب القاعدة الأميركية في بولندا | #ال
.. مصطفى البرغوثي: ردود فعل السياسيين الإسرائيليين تظهر عنصريته
.. جزيرة تايوان.. فتيل نار الحرب الوشيكة بين أمريكا والصين
.. شاهد| ممثل أمريكي يرفض شرب قهوة ستاربكس ويدعو لمقاطعتها
.. شبكات | هل قصفت أنصار الله سفينة تركية متجهة إلى إسرائيل؟